دور الأنتلجنسيا في مواجهة التحديات الراهنة ـــ حسين حموي
لا شك أن جذور (الأنتلجنسيا) أو النخبة المثقفة في المجتمع قديمة في التاريخ، برزت حتى في التشكيلات المجتمعية السابقة للرأسمالية، فهي تحتل مسافة مجتمعية ذات فاعلية ذهنية نوعية، وهذه المسافة تتسع أو تضيق حسب درجات المعرفة الشديدة التنوع في السلم الحضاري للمجتمعات.
يحدد الباحث البلغاري (نيقولاي فليشيف) موقع الأنتلجنسيا من الطبقات فيضعها في البعد الوسطي بين الطبقات دون أن يعطيها صفة الطبقة (لأنها لا تملك وسائل الإنتاج المجتمعي ولا تنفذ أعمالاً يدوية تحقق الإنتاج المجتمعي المادي) لذلك هو يعتبرها مسافة مجتمعية خاصة حيث يقول: «إن ما يعيّن تعييناً دقيقاً الأفراد الذين ينتمون إلى الأنتلجنسيا هو المقام الخاص الذي يحتلونه في التقسيم المجتمعي للعمل، فالانتلجنسيا تشمل جميع أولئك الذين ترتبط مهنتهم بالعمل العقلي من علماء، أدباء، مدرسين، فنانين، رسامين، أطباء، مهندسين، وتقنيين، وتشمل جزءاً كبيراً من ملاكات المناصب العامة والمؤسسات والمنشآت، والاقتصاديين، والمحاسبين، والخزنة، ومن ثم فإن الوظيفة المجتمعية الجوهرية للأنتلجنسيا هي الفاعلية الذهنية في جميع الميادين» [الخطاب الثقافي والمشهد السياسي في مواجهة الغزو الصهيوني، حسين حموي، دار الكتاب العربي، ط1، دمشق، ص 18] وما دمنا نتحدث عن الطليعة المثقفة في المجتمع (الأنتلجنسيا) ودور هذه النخبة في عملية البناء الحضاري لا بد من الحديث عن الثقافة الحاملة الرئيسة لهذه الشريحة الاجتماعية، والرافعة الأساسية في عملية النهوض الحضاري لكل شعب من الشعوب، والحاجة التي لا بد منها للارتقاء بالوعي المعرفي والإنساني عبر العصور.
إنها في إطار المعادلة التي يشارك في حديها الحامل والمحمول والدال والمدلول، تشكل الحراك الاجتماعي الذي يدخل في نسيج بناء الفرد والمجتمع على السواء، وتعبر التعبير الأدنى والأشمل عن الإنتاج المعرفي والإبداعي خلال المراحل التاريخية المختلفة، وتعطي المؤشر الصحيح، والمقياس الدقيق للتشكيلات الاجتماعية ونسيجها العام الذي في إطاره تتشكل الذهنية الجمعية لأي مجتمع من المجتمعات بحيث يمكننا القول:
«إن مقياس حضارة الأمم ناشئ من قدرة مواطنيها على فهم القيمة الحقيقية لمعنى الثقافة» (1) هذا المعنى الذي يأخذ أبعاداً ذات اتجاهات متعددة وهي (الوصفي، والتاريخي والبسيكولوجي، والبنيوي، والمعياري، والتكويني) فالطراز الوصفي هو شكل كلاسي للتعاريف الأثنولوجية المبكرة، وبينها تعريف (تايلور) القائل: «إن الثقافة أو الحضارة هي كل مركب يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق، والقوانين والأعراف، كذلك القدرات الأخرى والعادات المستحكمة لدى الناس لأعضاء في المجتمع... أما التعريف التاريخي فيؤكد على عامل التقاليد كمشرع للثقافة التي تصبح هنا إرثاً وحصيلة. ويعتبر التعريف المعياري القواعد هي الخاصية الأساسية للسلوك الثقافي، إضافة إلى ما يسمى وحدة أسلوب الحياة المميز لهذه الثقافة عن تلك. والتعريف البسيكولوجي يراعي الميكانزمات النفسية الناشطة عن تشكيل الثقافة أي عملية التعلم ونشوء العادات، أما التعاريف البنيوية فتتميز بالتركيز على الطابع الكلي للثقافات وترابطاتها الداخلية، وتؤكد التعاريف التكوينية على إيضاح أصل الثقافة وانحدارها وتعارضها مع الطبيعة، وتتمحور معظم التعاريف والمعاني والمفاهيم حول مفهوم التعامل السوسيولوجي مع الثقافة، أي تفسير الظواهر الثقافية كنوع معين من السلوك الاجتماعي ونتاجاته» (2) والثقافة بهذا المفهوم تنمو باستمرار وتتغير وفق قانون السيرورة الذي يرتبط بشكل أو بآخر بالعالم المحيط المتمظهر وبهيئة جديدة دائماً، وبنسيج تحديثي يناسب التحولات الموازية لكل مرحلة، والمتأتي كتحصيل حاصل للتفاعل والحوار بين الذاتية الثقافية لكل أمة؛ والثقافات الأخرى الخارجية التي تنتج عنها بالضرورة قيم جديدة وأنماط حياة مختلفة ترافق تلك التحولات، وتناسب التحولات الثقافية المستجدة فيها.
ما يهمنا في هذا السياق الدور الذي يلعبه أو يؤديه المثقف في عملية التنوير التي ينتج عنها بالضرورة عمليات تطوير وتغيير في القيم والسلوكات جزئية وليست كلية، لأن لكل ثقافة سماتها ومثلها وقيمها وأنماطها السلوكية التي تمايزها عن غيرها من الثقافات، وتلك الإضافات الجزئية تحل محل العادات والتقاليد التي شاخت أو أصبحت عاجزة عن مواكبة حركية الحياة والتطور.
ويجد (ميرتون) «أن هناك نموذجين للثقافة (المغلق والمكشوف) أما (ليفي شتراوس) فيجد أن هناك ثقافتين (ستاتيكية ودينامية) ويجد (رالف لنتون) أن الثقافة تشمل طائفتين أساسيتين من الظواهر، وهما السلوك البشري والأشياء التي تعتبر نتاجاً له» (3) وطبيعي أن نطاق الثقافة لا يشمل جميع أنواع السلوك بل تلك التي صارت عادة اجتماعية، أي السلوك الذي يتميز بالانتظام، ومصدره عملية التعلم المميزة للجنس البشري، والتي تعتبر إحدى الميكانزمات الرئيسة لنشوء الثقافة وبقائها وتطورها القائم على أسّ الطابع التراكمي للثقافة. فالثقافة القومية التي تتجدد نتيجة التحوّل الخلاق للإنسان ومحيطه من خلال نشاط الإنسان والمجتمع مادياً وروحياً وفكرياً ومعرفياً هي الحاملة للهوية القومية والمعبّرة عن الشخصية الثقافية، والخصوصية الدالة على العلامات الفارقة بينها وبين الثقافات الأخرى.
إذن كل محاولة لطمس هذه الهوية أو تشويه لتلك الشخصية أو تذويبها هي عدوان مباشر أو غير مباشر على وجود الأمة ومقوماتها الحضارية؛ التي يدخل في نسيجها اللغة والتاريخ والجغرافيا والتراث والإبداع الفني والأدبي والعلمي وكل الأشياء الأخرى الداخلة في النسيج العام للثقافة. وبهذا المعنى تغدو الثقافة فعلاً سياسياً وأخلاقياً واجتماعياً تمارسه الجماعة بشكل عفوي سلباًَ أو إيجاباً تجاه أي حدث، وبخاصة تجاه الأحداث المصيرية التي تلامس الوجدان القومي والشعور الوطني المرتبط بالأرض والكرامة والحرية، فكلما كان الحدث خطيراً والزلزال عنيفاً اهتزت أغصان شجرة الثقافة بعنف، وكلما كانت الرياح عاتية والأعاصير جامحة تهدد باقتلاع تلك الشجرة أو تحطيم أغصانها، كانت الحاجة ماسة لامتداد الجذور في أعمق أعماق الأرض، والتصدي لتلك الرياح العاتية.
من هنا نستطيع القول: إن أي تقليل من شأن الثقافة والمثقفين، أو إهمال في رعاية حقول الإبداع؛ هو تهاون في الدفاع عن الهوية القومية والشخصية الثقافية للأمة، وتواطؤ عن حسن نية أو سوء نية مع جميع أشكال الغزو العسكري والسياسي والثقافي والاقتصادي التي تندرج في سياق العولمة المتوحشة السوداء الزاحفة باتجاه الأمم والشعوب الضعيفة لتفكيك وحداتها الوطنية والقومية إلى كانتونات اثنية تقوم على العرق أو الدين أو العشيرة، ولا تحمل مواصفات الأمة أو حتى الدولة الوطنية موظفة من أجل ذلك أحدث وسائط الاتصال معززة بأحدث الأسلحة التي توصلت إليها الصناعات العسكرية المتقدمة تكنولوجياً. بحيث تغدو المثاقفة بين الحضارات أمراً مستبعداً ليحل محلها صراع الحضارات (النظرية الأمريكية التي نادى بها هنتغتن) وأيدها فاكوياما في مقولته (نهاية التاريخ) وهذا خلق نوعاً من الإشكال الثقافي بين أوساط المفكرين والمثقفين في الغرب والشرق والشمال والجنوب، ولم يكن المثقفون والمفكرون العرب بمنأى عن هذه الإشكالية، فثمة مثقفون عرب ما زالوا ينظرون إلى الثقافات الوافدة من الخارج تحت أي شعار من منظور الإعجاب والتقليد الأعمى الذي يقارب مفهوم التبعية والاستلاب الثقافي، وثمة آخرون يؤمنون بالحوار بين الثقافات على أساس الندّية ومن منظور احترام الخصوصية الثقافية لكل شعب، ويثقون بالإمكانات الذاتية والقدرات الإبداعية لثقافتنا القادرة على الأخذ والعطاء والتأثر والتأثير؛ معترفين بالقفزات النوعية التي حققتها الثقافات الأخرى، وبحاجتنا إلى تغذية ثقافتنا بمعطياتها الجديدة التي أصبح يفصلنا عنها فجوة كبيرة نحتاج إلى عقود وعقود للحاق بها، وثمة آخرون جندوا أنفسهم في خدمة تلك الثقافات الغازية وأغراضها.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة في هذا السياق هو: كيف السبيل إلى خلق مناخ صحي حواري بيننا وبين تلك الثقافات الوافدة من الخارج؛ بما يحقق نوعاً من التلاقح والإفادة لثقافتنا من غير أن تجتاحنا برياحها العاصفة؟ ومن غير أن نقف أمامها عراة مجرّدين عن أية ثقافة تراثية عريقة تدلل على خصوصيتنا؟
لا سيما وأننا في هذه الأيام نتعرض لقصف إعلامي عنيف من قبل الثقافات الغازية ونحن في أشد حالات الضعف والوهن السياسي والثقافي، فالتجزئة تنخر عظامنا، والخرافات والترهات الثقافية البالية تشرش في عقولنا وتهيمن على طرائق تفكيرنا، والمؤسف حقاً أننا «عندما انفتحنا على الثقافة الغربية لم نعتمد على جذور أصيلة؛ بل اعتمدنا على زبد الثقافة المستوردة، وعندما تمالكنا نهوضنا وجدنا أنفسنا في ضياع شبه كامل لذاتيتنا الثقافية، فلم نستطع أن نكون ثقافة قادرة على مسايرة التطور السريع للثقافة الغربية، وكان هذا التناقض الذي اكتشفناه متأخرين بين ثقافة غائبة أو مغلقة وثقافة متقدمة تفد إلينا من أكثر من طريق» وبين نخبة مثقفة تفتقر إلى الرابط التنظيمي يحاول كل مثقف فيها أن يعبّر عن طموحاته وأفكاره في خلق حياة عصرية بالنسبة للواقع العربي المتخلف «بمصطلحات ومفاهيم تقليدية لم تخرج في معظمها عن محاكاة مفاهيم التنوير والعقلانية الأوربية التي أفرغت بدورها من مضمونها العقلاني النقدي للتحول إلى عقلانية وصفية» (5) ولم يكن الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وأديب اسحق وسلامه موسى وشبلي شميل، وفرنسيس مراش وفرح أنطون وغيرهم من النخب الثقافية ممن حملوا راية التنوير، وسعوا جاهدين لتغيير الواقع العربي وتطويره آنذاك إلى مستوى المجتمعات الأخرى إلا مقدمة طبيعية ريادية لنخب ثقافية متتالية ساهمت بفعالية في حركة الإحياء القومي والنهضة العربية، وساعدت في الارتقاء بوعي البنى التحتية في المجتمع العربي للحاق بركب الشعوب المتقدمة، وما تزال هذه النخب الثقافية تتوالد وتتناوب في حمل راية التنوير والتغيير جيلاً بعد جيل، لكنّ موقفها ما زال ضعيفاً على امتداد وطننا العربي الكبير وذلك لأسباب كثيرة أهمها:
1 ـ تفكك هذه الأمة إلى اثنتين وعشرين دولة كل واحدة منها تدعي لنفسها الريادة النهضوية، وظهور النزعة القطرية حتى لدى بعض المثقفين أنفسهم.
2 ـ افتقاد هذه النخب إلى الوحدة التنظيمية الحقيقية التي تجعل من أصوات هذه الطليعة صوتاً واحداً في أيام المحن وتجاه القضايا الوطنية والقومية التي تلامس روح الأمة وحقوقها وتطلعاتها.
3 ـ تضخم الأنا المتورمة أكثر من حجمها الطبيعي لدى القسم الأعظم من هذه النخب، بما يفسح المجال للقوى الأخرى الداخلية أو الخارجية أن تفعل فعلها في خلق الخلافات والشروخ الفكرية إلى المستوى الذي تتحول فيه تلك الاختلافات في وجهات النظر والأيديولوجيا إلى خلافات شخصية؛ من خلال ممارسة ديمقراطية الخطاب وديكتاتورية السلوك فيظهرون من خلال أقوالهم وكتاباتهم على أنهم مبدئيون وهم في حقيقة الأمر سماسرة مصالح وشعارات، مما انعكس سلباً على الأداء العام لهذه الشريحة المثقفة سياسياً واجتماعياً (9).
4 ـ كثرة المثقفين المتهالكين على أعتاب السلطة والدفاع عن الأنظمة السياسية التي توليهم مزيداً من الاهتمام، أو تجزل لهم العطاء والهبات والمكتسبات والمواقع السلطوية في مؤسساتها الثقافية والإعلامية وهيئاتها الحكومية؛ بحيث يتولى بعضهم بأنفسهم إخماد جذوة الأفكار الجديدة التي يشعل فتيلها بعض المثقفين المخلصين للثقافة والوطن بحيث ينوب هؤلاء المثقفون عن السلطة الحاكمة في قمع زملائهم، وتحويل تلك الشريحة الطليعية المثقفة إلى شلل متناحرة متناقضة.
5 ـ انتشار وسائط الاتصال الحديثة، وسيطرة القوى المناهضة للتحرر الثقافي عليها، وتوجيهها باتجاه الغث والهزيل والمسطح، وإبراز الوجوه التي تخدم السياسات الإعلامية لتلك الوسائط وإظهارها على الدوام في فضائياتها لتعميمها كنماذج ثقافية، واستبعاد الوجوه الرافضة لكل ثقافة غثة وهزيلة ومسطحة بشكل أو بآخر عن تلك الوسائط.
6 ـ تفشي الأمية، وتراجع الكتاب إلى المواقع الخلفية في الاقتناء والقراءة والانتقال بين الأقطار العربية، وانخفاض المستوى الطباعي كما وكيفاً، وانحسار دور المثقف في الفعل والتأثير عما كان عليه في العقود السابقة.
7 ـ تحوّل الكتابات والإبداعات التي ينبغي أن تكون ذات بعد استراتيجي بعيد المدى إلى كتابات صحفية؛ وإبداعات لاهثة دائماً وراء الحدث السياسي المباشر والمناسبات والمدائح وأحياناً تزوير الحقائق أو التعمية عليها، وتحويلها من كتابات تسعى إلى الارتقاء بوعي الإنسان وتحقيق حريته وسعادته إلى كتابات مضللة مزاودة شعاراتية مروجة لما يريده السياسي، حيث ما تزال العلاقة بين السياسي والثقافي علاقة تبعية ضيقة يمارسها السياسي على الثقافي بالاحتواء حيناً وبالإقصاء والترهيب حيناً آخر؛ ليكف بشكل قسري عن كشف عورات الأنظمة السياسية الاستبدادية البالية المعيقة لكل تطور وتقدم ونهوض حضاري.
8 ـ تضاؤل الشعور القومي، وانحسار الفكر العروبي الوحدوي بسبب الحروب الأهلية العربية، والعربية العربية، والانقسامات التي حصلت بعد حرب الخليج الثانية، وانصياع النخبة المثقفة إلى عوامل المد والجزر المصاحبة لتلك الأحداث، وانخراطهم في ولاءات سياسية وبقائهم منقسمين على أنفسهم وفي تصوراتهم وحبواتهم.
ولكن علينا أن لا ننكر «أن هذه النخبة أو الصفوة المثقفة أو المتنورة استطاعت أن تلعب دوراً كبيراً في عكس ميول الفئات الاجتماعية المختلفة (في بدايات عصر النهضة) كما أن تاريخ الفكر الاجتماعي ظل مرتبطاً بنشاطها الفكري» (6) وبفضل خصائص وضعها الاجتماعي والوظيفي. وكذلك بفضل الاستقلال النسبي للوعي ذاته. في مضمار ذلك كله «استطاعت هذه الصفوة أن تشكل إلى حد ما فئة اجتماعية لها بعض الاستقلالية في نشاطها الفكري، إلا أن تضارب المصالح للمجموعات البشرية المختلفة التي كانت تعبر عنها أو تمثلها هذه الشريحة (شريحة الأنتلجنسيا) هي التي كانت ومازالت تلعب الدور الأساسي في تضارب وصراع الأفكار والمبادئ في الميدان الثقافي والأيديولوجي» (7) ليس فقط على صعيد القطر الواحد بل على صعيد الوطن العربي ككل. والمثقف لا يولد من رحم أمه مثقفاً بل ينهل من العلوم والمعارف والتجارب الحياتية والثقافات الأخرى؛ ما يجعله يتكون معرفياً بشكل جيد، ثم تنعكس هذه المعرفة إلى وعي وسلوك وموقف حياتي والتزام واستعداد للنهوض بالمهام الثقافية كرسالة وطنية تجاه الوطن والناس الذين يعيش معهم أولاً، ثم تجاه الأمة التي ينتمي إليها، ولكي يقوم بالدور الإصلاحي التنويري الذي أعدّ نفسه جيداً للقيام به، لا بد أن يتغير هو أولاً قبل أن يأخذ على عاتقه الاضطلاع بمسؤوليات تغيير الآخرين، أو إعادة تشكيل الحياة وفق رؤيته التغييرية التي ينشدها، وفي هذا المضمار تصادفنا أنواع عدة من المثقفين؛ حيث نجد المثقف الطوباوي الذي لا يدرك الشروط الذاتية والموضوعية للتغيير، ولا يمسك بالأدوات الفاعلة المؤثرة التي توصلنا إلى الأهداف التي نرمي إلى تحقيقها، كما يصادفنا المثقف النفعي الذي يوظف ثقافته لينال ما تيسّر له من كعكة السلطة الحاكمة واللامبالي واللامنتمي والمتطفل على الثقافة، وفي الوجه الآخر نجد المثقف الحقيقي الشريف النظيف ممن «تتوافر لديه المعلومات والمفاهيم النظرية والقدرة على التعامل مع الأفكار المجرّدة عن الشؤون العامة المكونة لثقافة المجتمع» (8 المتمسك بأخلاقيته وتضحياته وصلابته ومثاليته ونحبويته كما وصفه (جوليان باندا) أو قدرته على طرح المشروع المجتمعي، أو كيما أطلق عليه (جرامشي) المثقف العضوي، أو صاحب الشغف العام والغالب بالحرية والمساواة لدى (ألكسي دوتوكفيل) أو معاينته ككائن معرفي يمكنه أن يستثمر رأسماله الرمزي بامتياز كما تحدث عنه (بيير بورديو)، ويطرح حليم بركات أن المثقفين هم الذين يمارسون بالأساس نشاطات فكرية حين ينشغلون بالبحث والإبداع والشرح والتعليم والنشر والتعبير وصوغ الرموز بغايات قصوى تشمل الفهم والمعرفة والوعي والتخطيط والعمل (9) والأنتلجنسيا بهذا المفهوم ليست كما يشير معناها الشائع، (مجموع المثقفين في بلد من البلدان) بل هي «القادرة منهم على صوغ رؤية نقدية ومستقبلية تحمل بديلاً لوضع قائم ويتوافر لدى أعضائها شرط أدنى من التجانس الفكري الأيديولوجي، والتفاف حول القضايا المثارة، وبالأخص في ظروف التحول الاجتماعي؛ وهي بهذا المعنى تمثل الإطار التنظيمي الاجتماعي الفكري الأعلى للمثقفين ربما يشي بعدم وجود مثقفين من جهة وأنتلجنسيا من جهة أخرى» (10) ويرى إدوارد سعيد أن ما يميز دور المثقف هو «مواجهة السلطة بالحقيقة والانتصار للضعفاء والمضطهدين والتعبير عنهم وتمثيلهم، والسعي إلى تغيير الأوضاع الكابحة بإثارة مناخ أخلاقي يرفض الظلم والزيف والتسليم بالأمر الواقع، والجمع بين الموهبة والعمل الدؤوب لتوسيع وتعميق معارفه، وطرح الأسئلة، وكسر القوالب الجامدة والأفكار الجاهزة، وتتفق نظرة سعيد هنا مع ما يراه ادوارد شيلز من أن نقد السائد يعد من بين التقاليد الأكثر ثباتاً التي يرتبط بها المثقف» (11).
إننا لا نستطيع أن نحمّل المثقف أكثر مما يحتمل في خضم صراع كبير بين مشروع قومي عربي نهضوي، ومشروع صهيوني أمريكي عولمي له أنياب قاضمة لكل شيء؛ يعيق إنجاز مشروعه التوسعي بحكم تفوقه العسكري والتقني والاقتصادي والإعلامي، وتفرّده في الهيمنة على القرار السياسي العالمي بعد انهيار المنظومة الاشتراكية. لكننا لا نستطيع في الوجه المقابل أن نقلل من دوره وفعاليته في إنجاز هذا المشروع أو الإعداد له ليكون قيد الإنجاز، فالمثقف العربي مطالب بإنتاج واقع وتاريخ جديدين يعيدا نتاجهما بقراءة موضوعية للواقع، ومنطقية للتاريخ تلهمه «أصول وحداثات شتى واختياره هويته لا يتناقض مع اختيار حداثته إذا كان قادراً على تحرير هويته والتحرر من حداثته أيضاً، وهو كائن واقعي موجود في عالم تحدده وقائع وشروط وعوامل في ظل صراع مع الآخر يحكمه عجز أنظمة وفوات مجتمع والتحدي الأكبر الذي يواجه المثقفين العرب هو أن يكونوا مثقفين حقاً، أي أن يكونوا مع مجتمعهم ومن أجل مجتمعهم» (12) وأن لا يعيشوا حالة الانفصام أو يبقوا على رواسب الحقبة العثمانية البعيدة وأمراضها في تلافيف عقولهم، وأن يدافعوا عن الحق والخير والجمال والعدالة وقضايا أمتهم وقضايا المظلومين في العالم، فموقع المثقف الحقيقي دائماً! إلى جانب قضايا أمته وشعبه إلى جانب الحق والعدل والخير أينما كان، وأن يكون أميناً على رسالته التي اختارها بمحض إرادته، ووهب عمره وحياته من أجل انتصارها، مؤمناً بحق الاختلاف مع الآخر، وممعناً في التأكيد على أن الحوار هو السبيل الذي لا بد منه للمثاقفة والنهوض الحضاري، يبث روح الأمل والتفاؤل في ذروة الانهيارات الكونية والتشاؤم والإحباط، حاملاً لمشروعه الثقافي المتوج بالتنوير والتغيير حتى آخر شهيق وزفير.