بسم الله الرحمن الرحيم
"مقالة "
" الحضارة والأدب "
"الدكتور عادل طالب الشيخ حمادي القيسي "
ان الحضارة البناءة الرشيدة تنتج ادباً متماسكاً غير متهالك , ناضجاً غير متخاذل , سامياً غير مبتذل , رفيعاً غير مترخص, لا يقف الامر بالحضارة واثرها في الادب عند تطويره وتطويعه للخلق والابداع على نمط معين بل تجعله سهل المأخذ ,ممرع الفيض , غزير الانتاج ، ومتى ما سمت فنون الادب تصبح فناً مكتملاً اسباب النضوج , مستتماً مظاهر النماء , قادرتاً على التجديد والتجدد , والخلق والتنوع والمنح والعطاء والأبداع .
ان مظاهر الادب من الناحية العامة لا تنحصر في الشعر والنثر ولكنهما يشكلان جل أهتماماته ومن كل من هذين العمودين تتفرع ادواح واغصان ، وان كل من هذين الفنين الكبيرين قد تأثر بالحضارة وأنفعل بها واخذ منها مدداً جعله يحث الخطى في سبيل التطور والتنوع .
لابد ان نشير الى سخاء الحضارة الاسلامية ، تلك الحضارة التي اعطت العقل البشري ببذخ وثراء في كل نطاق عقلي وفكري وادبي وعلمي وفني . حيث جعلت الادب رفيع في الاجادة وبمقام مرضي من الابداع، جعلته يرقى غاية ويتسع نطاقاً ويتعدد ابواباً وافقه اكثر رحابه , وفنونه أغنى خصوبة , والمبدعين له اوفر عدداً واكرم انتاجاً . اصبح الادب في موكب هذه الحضارة من السخاء والسماحة والكرم والعطاء بحيث فتح قلبه لكل من اتصل بتلك الحضارة بوشيجة من الوشائج أو صله من الصلات واستوى في ذلك الرجل والمرأة والملك والوزير والغني والفقير , ولقد ارتفعت اصوات كثير من النساء الفضليات , بالقول الرصين والبيان الناصع والشجاعة الادبية التي تدعو الى الاعجاب.
عودة الى اركان الادب الاساسية من الشعر والنثر فنقول ، أن الشعر حسبما عني به دارسو الادب ـ مديح وفخر وهجاء وغزل وصور واساليب وفن يساير التطور ويواكب احداث المجتمع ويلبي متطلبات الزمان ويهتم بشؤون البيئة متطورة متغيرة بما فيها من تحول وتقدم وانطلاق .
(1 – 3 )
فنافح هذا وعارض ذاك وشارك في وصف الحياة الاجتماعية الدقيقة للأفراد والجماعات ولم يرضى الشعر لنفسه ان يكتفي بتجديد موضوعاته بل ركب مركب الجرأة فجدد ثيابه وغير اشكاله في تفاعل مع البيئة وتفاهم معها , فظهرت الموشحات المطربة المغناه ، والتفت الى عامة الناس وخاطبهم بلغتهم واساليبهم فظهر الشعر العامي او الزجل.
وقد اثرى الشعر نفسه بالكثير من الموضوعات الفكاهية والمواقف الضاحكة التي تبعث البسمة عريضة قريرة الى الشفاه وكان الشعر يرصد الثقافة ويتتبع اثارها , فعمد الشعراء الى وصف الكتب والاقلام والمحابر والالواح بل انهم وصفو الكاتبين من اجاد منهم ومن قد كبا فمدحوا هذا وأطروه , وهجو ذاك وقبحوه .
اما النثر فكل ما يقال عنه قليل فقد تعددت موضوعاته وتنوعت اساليبه وتباينت وتشعبت وخلقت موضوعات جديدة وابتكرت فنوناً مستحدثة حتى وصل الامر الى كتابة فكاهية قوية ساخرة بهيجة ضاحكة متخذة موضوعات نابعة من مظاهر احوال المجتمع فهذا رجل يحتل مكانه مرموقة في مجتمعه له أم عجوز تصر على الزواج بعد وفاة ابيه فتنبرى اقلام الضرفاء لتعزيته في زواج امه واخر ينفق له ثور فيسارع الكتاب مداعبه له ومزاحاً الى تقديم العزاء في الثور الفقيد.
ويسير النثر في مضمار الخلق والابداع فيظهر فن القصة القصيرة ناضجاً مكتملاً حتى يصل الحال بالنثر ليكون منسجماً مع الحياة العامة في رتابتها واضطرابها غنىً وفقراً , ونقاءً وكدراً , واستواء وانحرافاً, وجداً وفكاهه وعلماً وجهداً , الى غير ذلك من الضروف التي يمربها كل مجتمع من مجتمعات الانسانية في مراحل حياته المتعاقبة المتلاحقة .
ولا بد ان نذكر هنا الخطابة وهي فن اصيل من فنون النثر ولكل امة خطباؤها وفي كل لغة خطب مذكورة ومأثورة،ومن نافلة القول ان نذكر خطبة يصف بها الخطيب الدنيا فيقول " فأني احذركم الدنيا, فأنها حلوة خضرة , حفت بالشهوات وراقت بالقليل , وتحببت بالعاجلة وحليت بالآمال , وتزينت بالغرور
لا تدوم حبرتها ولا تؤمن فجعتها , غرارة ضرارة , خوانة غدارة , وحائلة زائلة , اكالة غواله, بذالة نقالة , ان امرءاً لم يكن منها في حبره الا اعقبته بعدها عبرة, ولم يلق من سرائها بطناً , الامنحته من ضرائها ظهراً.
(2 – 3 )
ومن امثلة الفصاحة والابانة لدى النساء اقوال الخنساء تحض اولادها على القتال " يابني انتم اسلمتم طائعيين , وهاجرتم مختارين , والله الذي لا اله غيره , انكم لبنو رجل واحد , كما أنكم ابناء امرأة واحدة,ماخنت أباكم , ولا فضحت خالكم , ولا هجنت حسبكم , ولا غيرت نسبكم وأعلمو أن الدار الباقية خير من الدار الفانية , يقول الله عز وجل " ياايها الذين امنوا اصبروا , وصابروا , ورابطوا , واتقوا الله لعلكم تفلحون " فأذا اصبحتم غداً , فأغدوا الى قتال عدوكم مستبصرين , ولله على اعدائه منتصرين .
(3 – 3 )