-1-
على عتبات غربة زئبقية ، قاب قوسين أو أدنى من شروق ضليل ، تلوح على مقربة من البحر أرض مدججة بالدموع السوداء و بخور الموتى .
قافلة نخرة، ناسلة من عمق التيه ، تخبط في الليل الملطخ بالعويل خبط عشواء ، تسير على درب متيم بالأشواك المخضبة بدم الفجيعة .
القافلة العارية إلا من رحيلها المحموم ، موجهة وجهها شطر الأرض المضرجة في الأنياب ، تغازل رؤاها المتعبة شمسا ذابلة تطل من كوة حلم عابس .
عواء يشق نقيق القبور اللائذة بأعشاشها، و الجثث المجلّلة بالصقيع ترمق بعين قاحلة كلابا تمزق بشراهة زئبقية ابتسامة طفل وليد يهدهد حلما شريدا قابعا على ضفّة الريح الرابضة على باب الوقت الآهل بالفراغ.
سرب حمام مهيض الجناح يحلق فوق البحر المراقص لعاصفة متغنّجة ، عاصفة مجنونة تلاحق بألسنتها الممتدة كالسعير قطعة خشبية يتيمة تصارع بشراسة مخالب الموج ، الخشبة على يأسها تدفع رغم العواصف و الأنواء بصبح الجثّة الواقفة على كفّ المنيّة نحو المرافئ ، الجثة الناسلة من زمن الحكايا مستمسكة بالخشبة و الأمل ، تدفع بعسر صبحها نحو الشاطئ اللائذ بالصمت ، و الصمت المرتعد يتتبع العاصفة الرافعة في وجه الزورق رباطة جأش بدائية .
الواقف على متن الزورق في وجه المغناج كتوم ، يجترّ بين الفينة و الأخرى شتيت رجولة محطّمة على صخرة التيه الأزليّ .
الجثة و الزورق و الخوف و البحر الهائج كالتنّين، و الموج المتصاعد في رقصة جنونية نحو السماء يمزّق بكل ما تضمره أنيابه من مكر جثّة السكينة ، و الواقف في وجه المنيّة على متن خشبته متشبّث بأفق رميم .
الليل الكثيف يرقب من ثقب الرحيل المتعفّن راكب البحر و مطيته المتلعثمة في جفن الردى ، و البحر المزبد يراود الزورق الشموس عن نفسه . و الأرض على مقربة منهم مجهدة لا تنبس بحرف ، تشيّع بعينين مثقلتين بين الحين و الآخر تخبّط الزورق و صاحبه المتسمّر في الإصرار.
تعثّر الزورق في وجه الغاضبة مرات عديدة ، و كذلك تدحرج الغريب الواقف على الشوك كأنّ المنيّة تحته من رأس الدود إلى أخمص قدميه، و بعد عناء طويل ، و بعد مكابدة شرسة أتلفت بعضا من حجب الليل ، بلغ الزورق الشاطئ المترهل.
****
نزل أشعث الأحلام مبلّلا، خائر القوى ، لاهثا ، دافعا بزورقه المرتجف بين يديه المتعبتين نحو الرمل ، تارة في رفق، و طورا في عنف ، و لمّا بلغ به اليابسة أسلمه لسكون البون و مصيره.
****
ترك الغريب زورقه حجرا هامدا بعدما أنزل منه متاعه و نخلته رفيقة دربه ، ألقى الغريب بجسده غير بعيد ليسترد بعضا من أنفاسه المتعتعة ، و يلملم مزق راحة كان قد فقدها على متن البحر الرافل في أمواجه البركانية . بقي الجسد قسطا من الزمن لم يقدّره كأنّ الشوك يهدهده .
و لمّا حلت بالبدن السكينة ، و استردت نخلته أنفاسها ، اجتث الغريب جثته من رمل الشاطئ ، و عواء الحلكة يحرسه ، و الريح تمدّ نحوه ألسنتها الحارقة ، اتجه بخطى متعبة نحو زورقه الرابض في خشوع ، و طاف به مرات عديدة كمن يبحث عن شيء ذي بال فقده ، ولما أعياه التّطواف جثم على دمعتيه و راغ عليه بالتقبيل ، و الزورق متدثّر بجليد اللغات .
اطمأنّ الغريب في جلسته و ضمّ إليه نخلته ، و بعث بعينيه يد رحمة تهدهد الزورق ، و تهدّئ من روعه ، و تبثّ فيه شيئا من الأمن ، و الزورق على سكونه يبدو مضطربا .
دوّت في تلك اللحظة نواقيس الجنائز السرمديّة في أرجاء الشجن المنبسط ، و اعشوشبت السكاكين العمياء حول الغريب و نخلته ، و انتشرت العناكب تلفّ حروف الموتى بخيوط من وهم الفارّين من زمن السياط . اضطرب الغريب بين يدي الوجود المقطوعتين ، و أسند جمجمته المثقلة إلى نار بربريّة الهوى
و انهمر من لسانه نشيد القبائل المسبيّة :
على كف الريح استريحي ....
يا النخلة الممتدة في وريدي ....
يا الحاضنة لربي المنشود ...
يا الباسقة بين جنبي نورا متوشحا بالغد المطرود ...
يا النخلة … يا الممتدة نحو الله … ردّي عليّ وجهي ...
و اكرعي من بؤبؤ دمي صحوك و صحوي ...
و استبيحي تحت قدمي الحمامة المسرحة في شراييني نحري ...
و انفخي في وجهي قمم الجبال … أجنحة الطير...
لكي ألدني من بين أصابع أرضي المنذورة للعواء و النهب ...
وانفخي في لساني الطوفان… وبثّي فيّ و فيك شرفة القمر
واسرجي أنفي للشرف المغلول بسلاسل العرش الأبدية
يا نخلتي … يا المنذورة لربي و الرحيل ...
يا الرافلة في عروقي … هزّي إليّ بخيط الشمس الكامنة في ابتسامات الثكالى
يا نخلتي … لملمي صوتي التائه في السياط … و سرّحي الدود في نبيذهم ...
يا نخلتي يا التي تبذرين الأريج في الأفق
قد أهرق يومهم سوقي … و عقرت خفافيشهم نوقي … و مزّق إلههم المتأبط ذلاّ روحي الثخينة ...
يا نخلتي … يا المنذورة للغد القريب بثّي في لغتهم النخيل …
و نقّي أرضهم أرضي ... من الجماجم ... و القبور ... و الذئاب
****
هكذا أسرّ الغريب لوحدته المعلّقة على باب الغياب ثمّ تقهقر إلى الخلف خطوات محزونة ، ثمّ شيّع البحر المطأطئ ، و بقر بطن رحيله بمستقرّه ، و حضن نخلته ، و استقبل بالشمس الجالسة في خدر غده أرض الأجداث و الأشواك الممتدة نحوه كالليل البهيم . قلّب زورقه الرابض على صمته ذات اليمين و ذات الشمال برهة ، ثمّ تحامل على تردّده و أضرم النار فيه .