محمد التطواني- هولنداعلى جنبات الطريق, تعرفت على عديد من الشخصيات , وفي أماكن سكناهم ..في محلات تجارتهم.
وأعجبت بشخصيات محترمة,كالسيد طاطي في الوقت الذي كان ينزل بمطرقته على السندان لتسوية قطع الحديد الصلبة,و السيد خنشوش الزبال الذي كان يعيرني بالطالب المتقاعد. والهبيل الذي لا يقدر على حبس لعابه. والسيد عسو الذي كان يجر عربة دار الدباغة هو وحماره كما يجر ذبابة. مذ عرفته وهو يعشق ( كل كلمة حبي حلوى سمعتهالك لعبد الحليم حافظ).
أما جماعة النذل كلما دخلت عليهم المقهى كانوا يسارعون الى مسح الطاولة وبعضهم يرفع من صوت الراديو واحضار الصحف والماء البارد, لأنهم كانوا يقدرون حالة الطالب, ويحترمون فراغ جيوبه من وسخ الدنيا.
وسط هذا اللون من الشخصيات المحترمة ترعرعت,.. دفء, وصداقة و ثقافة كذلك. حتى جاء ذلك اليوم, تلقيت فيه رسالة من صديق يسكن جنوب المغرب يطلب مني أن أزوره. لم أكن بخيلا في مثل هذه المناسبات.
في القطار تعرفت على رجل ليس ككل الرجال..
على وجهه تعلق صقيع و مد و جزر , و جدار غليظ , لم يسمح لي بأن أتسلقه بسهولة.
انتهزت الفرصة, وحملقت في أصفاد عينيه قبل أن يغادر القطار المحطة.. وكأني استعنت بزر, نكس أهدابه و عرفني بنفسه.
- أنا من القصر.. أعيش بداخله.
فرحت .. لأني لم أتصور ذات يوم سأجلس أمام ( بركة القصر ).
وتخيلته كله قصر!!
بذلته قصر..شعره قصر.. كلامه قصر.حتى وسخ حذائه من ريحان القصر.
لامست بذلته, والتصقت به حتى شممت رائحة القصر أنستني رائحة الفاسوخ والجاوي المكاوي( أنواع من البخور الشعبية).
لوحت له برأسي ليستطرد كلامه. انه يتكلم كلام القصر, بدل لغتي الخشنة التي لا تعرف سوى طاطي وخنشوش ولهبيل. ( وكلام لقهاوي).
قال: نحن في القصر نتعطر كثيرا, ونقف كثيرا و ننام واقفين. لا نموت الا بأمر من الطبيب.ألأموات عديدة بداخل القصر.لكن لا أحد يقول : أنا ميت.
أشار علي ليعرف ما بيدي . لكن تعجلت في الرد قائلا: لا شيء , هذا كتاب لأحد السكسونيين, ربما قرأت عنه في صغرك. مارتن لوتر و حججه الخمس والتسعين.
مزقه. انه الثائر السكسوني الراهب في العصور الوسطى. هكذا خاطبني بلغة القصر .
كان الكتاب كتاب الجيب فلم يصعب علي اعادته للجيب.
سألته مترددا: كيف هي أسرة نومكم و لون طعامكم؟ أجاب: طبعا. حسب نظام القصر. لدينا درجات كما هو الحال في فنادق هواي و سنغفور. سألته: هل تلتزمون الحذر من شيء؟ لا.. كل الأبواب والنوافذ مسيجة ضد الناموس والذباب و زرزور *.
تابعت أسئلتي المتمردة: وهل عندكم بداخل القصر حديقة وسخة مثل حديقتنا. وحولها أطفال همل يلعبون. وحيوانات مسعورة مثل قططنا وكلابنا ؟
تطلع الى وجهي الشاحب وهو كله نشاط ونخوة ليؤلمني بجوابه. قال: تتكلم وكأنك وقعت خطئا من عالم لم يكتشف بعد! لا يمكنك مقارنة حديقتكم بحديقتنا . ان أجنتنا تسقى بمياه معدنية. أما حيواناتنا فلا تأكل سوى الأطعمة المستوردة.
سألته عن سنه. قال : أنا الآن في الحادية والثمانين.
قلت له بحسرة : والدي مات شابا.لو عاش في القصر لما مات في عز شبابه. وكنت أنا مثلك أمشي على الأرض مرحا , وتنطلق من جواربي رائحة القصر مثلك .
..