- 13 –
تمكن الفنان من الاحتيال على الشاب ، أخبره بأنه يصدق رؤيته ، و أن الأمر لا يعدو أن يكون خيرا ينتظره، و ثروة كبرى سيحصل عليها قريبا ، و أنه في الحقيقة ليس بفنان متجول و لكنه باحث عن الكنوز المدفونة ، و المنسية ، يتعقبها أينما كانت ، أو سمع بها .أخرج من حافظة فوق صدره قلما ، و قطعا من الورق ، و أخد يكتب مجموعة من التعاويد ، علق أحدها بجيد الشاب ، و أمره بالتوجه نحو عين الماء الجافة و البدء في الحفر.
تردد عقى في بداية الأمر ، لشعوره بالخوف لعدم تقته في الرجل ، لكنه و تحت التأثير و الإلحاح المتواصل ، أدعن بسهولة ، و أخذ ينجز المهمة بكل عفوية ، بينما كان الفنان ، يتلو بعض الآيات ، و يحرق أصنافا غريبة من البخور . حتى أغمي على عقى...
- 14 –
حين الليل ، خرج الشيخ متسللا فوق بهيمته ، نحو المركز ، و هو في الطريق ، أحس أن المسافة التي اعتاد اجتيازها في مدة قصيرة ، قد أضحت جد طويلة و عسيرة ، راودته هواجس كثيرة، بدت له "إيزة" لحظة و هي في أحضان عشيقها ، يتبادلان القبلات ، يقهقهان في نشوة كبيرة، و أخرى ، و هي متسلسلة خلفه نحو وجهة مجهولة .
فكر في العودة إلى البيت ، و العدول عن قراره بالتبليغ، وأنه كان عليه اغتياله رميا بالرصاص في بيته ، لأنه من الخجل تركه و زوجته الخائنة ...لكن طمعه في الحصول على مكافئة كبيرة ، و النجاة بجلده من رد فعل مضاد ، كان عزاؤه الوحيد ، و أن قراره كان صائبا ، كما أنه كفيل بجعل كل " إيزات" القرية يخرن راكعات تحت قدميه ، و رهن إشارته ، و ما "إيزة" إلا امرأة كبقية النساء ، ثم سرعان ما عاد إلى رشده ، تساءل محتارا ، في إذا ما كان لزاما عليه إرسال من ينوب عنه في تلك المهمة ، ما قيمته هو كشيخ للقرية ، إن لم يظل قويا ، باسطا نفوذه ، واقفا بالمرصاد للخائنين ؟ لاح له يبيت من بعيد ، فتوجه نحوه ، هم بطرق بابه فتذكر أن ما به سوى العجوز الشمطاء ، و الحمقاء ، فعدل عن الفكرة ، و عاد بأدراجه نحو دابته ليواصل مساره .
أحست المرأة بحركة غير عادية قرب باب منزلها، فخرجت مذعورة وهي تصرخ في جنح الليل ، الموت قادم أيها الخونة !!! الموت قادم أيها الخونة !!! أيها الغريب إياك و الاقتراب من الجسر الملعون !!
تجاهلها ، وصياحها المدوي في جوف الليل البهيـم ، لاح له الجسر كفكي كماشة تمسك بكل عابر ، تملكه شعور غريب ، أحس برغبة ملحة في قضاء حاجته ، نزل بسرعة من على ظهر دابته ، ابتعد قليلا ، ذعر البغل ، و انطلق بسرعة جنونية ، وهو يلاحقه بعينين مندهشتين ، فجأة داهمه قطيع خنازير برية ، أسرع نحو الحافة ، تلقى طعنات قوية من الخلف ، و ألقت به أسفل الجسر ، قتيلا على الفور.
-15-
لما استعاد " عقـى " وعيه ، كان القمر يلهو بنوره في كبد السديم مبددا ظلمة ليل طويل جدا ، نادى على الفنان ، بحث عنه دون أن يعثر له عن أثر ، أحس أنه استغفله ، و استغل سذاجته ،... تنازعته ظنون كثيرة من كون الرجل ، كان مجرد حقير ، أو عميل خائن ... لكن ما قضّ مضجعه هو كيف سرد أحداث كابوسه ، و عرف كثيرا من تفاصيله الدقيقة ، إن لم يكن .... شـك في كونه منجم أو قارئ للأفكار....
و هو يحاول تسلق المنحدر في عناء كبير ، لاح له شبح رجل نائم غير بعيد من الجسر ، استعاذ بالله من شر ظنونه ، وسوء نيته ، دنا منه ، فهاله المنظر ، كان الرجل مدرجا في دمائه ، تفرس وجهه ، فلاحت له ملامح شيخ القرية ، جن جنونه ؛ لم يعرف كيف يفسر ما حدث ، فانطلق يعدو و غير لاو على شيء ، نحو القرية .
-16-
شعر ميمون بأرق كبير، فخرج مهموما، و جلس فوق صخرة غير بعيدة من منزل عشيقته السابقة، يحاول ترتيب أفكاره، و اتخاذ قرار حاسم، تناهى إلى سمعه نقر فوق الدفوف ، فتذكر أيامه الخوالي معها قرب النهر، و في الغابة،و تحت الجسر ،و بينما هو منتش بذكرياته الجميلة ، تسللت خلفه ، و دكت رأسه بحجر كبير، مرات متتالية .
و هو يحتضر، لامته بشكل مرير، قائلة:
-لم يكن يجدر بك العودة إلى هنا لقد ارتكبت خطأ فادحا،
وأخطأت التوقيت المناسب لذلك ..
ابتسم وأغمض عينه في أسى .
ولولت، صرخت، تحلق حولها بعض الرجال، سألوها عم حدث، فأخبرتهم أن الضيف راودها عن
نفسها، فرت هاربة منه نحو الخارج، طلبا للنجدة تعتر، وسقط على صخرة، فتهشم رأسه.سألوها عن زوجها فأخبرتهم أنها لا تعرف إلى أين ذهب.
تناقشوا أمرهم فيما بينهم ، فأفتى بعضهم بإخراج الجثة من القرية ورميها من فوق الجسر، بينما اقترح أخرون دفنها في سرير الوادي و كثمان السر . وهم يتنازعون أمرهم فيما بينهم ، تدخلت "إيزة"
وحسمت الموقف، آمرة إياهم بانتظار عودة الشيخ فهو من سوف يقرر في الأمر.
لم تمض سوى ساعات قليلة ، حتى وصل الشاب منهارا ، وأبلغهم بالحادث المؤلم .
تلقت "إيزة " خبر موت زوجها كالصاعقة ، طار عقلها وخارت قواها ، بينما اجتهد ظرفاء القرية في ربط بين الحادثتين ، وظهور الفنان بغتة ، ورحيله كذلك بشكل مفاجئ ، وبين قصة الشاب "عقى"الذي مس فجأة ، وحكايته حول المرأة الجميلة والوحش ، والكنز ، الذي أخذه الفنان / الساحر / الدجال / الفقيه ... من جوف النبع القديم.
عمت الفوضى داخل القرية ، ومع وصول دورية الخيالة الفرنسية ، بدأت الاستنطاقات، والاستجوابات بالجملة قبيل منتصف النهار .
أضحى الجميع محطة اتهام ، داخل لغز جريمتين متماسكتين ، وهو في مكتبه يقرأ بعض التقارير الأولية ، و إفادات في بعض المحاضر ، كان ضابط فرنسي يحاول فك أسرار اللغز المحير ، تساءل عن أسباب عودة القناص الخطير ، و موته قرب بيت رجل مخلص ، أضحى موته هو الآخر لغزا يحب حل طلاسمه.
ظل يتفرس " إيزة " التي كانت منهارة ، و مهزومة ، يتساءل عن الأسباب الكامنة وراء قبول الشيخ باستضافة مجرم خطير ، تاركا بيته ، و قريته و زوجته ، ثم المغادرة لوحده لإبلاغ السلطات
بدت له صورة الرجل في هيئة عملاق و بطل ، محب لفرنسا ،و في نفس الوقت غبي و ساذج ، تسبب في هلاك نفسه بشكل غامض و هو يحاول إقناع نفسه بالفكرة الأخيرة ، سرعان ما استبعدها ، لما لامسه في الرجل مرارا ، من مكر و دهاء ، كياسة ، و حنكة ، تساءل مرة أخرى بحرقة عن الدافع الحقيقي الذي جعله يقدم على ذلك الموقف ، دون اللجوء إلى طلب المساعدة من رجاله .شك في كون الزوجة على علم بأمر ما ، أو على الأقل ، قد يكون الهالك قد أخبرها بذلك قبيل رحيله. إلتفت إليها و سألها بدهاء عن هوية الغريب ، قنفت معرفتها له بشكل مطلق ، وحاولت تحويل مجرى الحديث ، مخبرة إياه بكونها كانت ، و لا تزال من المخلصات " لفرنسا " .. كرر الضابط السؤال مرة أخرى، فأجابته بأنها لا تتدخل في أمور زوجها الخاصة، و أنها لا تتوانى في تنفيذ أوامره ، و احترام خصوصيته. كما أنها لم يسبق لها ، و أن عرفت الرجل الذي تهجم عليها ، و حاول اغتصابها في عقر دارها.
تأملها طويلا ، و هو مؤمن في قرارة نفسه ، أنها تحاول مراوغته ، و بكونها ليست امرأة عادية، كما تحاول إيهامه به ، أمرها بالانصراف وهو لا يزال يفكر في كيفية تكسير صمتها ، و الغوص في أعماق أسرارها ، و استكناهها ، سمع صراخا ، و هرجا كبيرا بالخارج ، أطل حانقا على جنوده ، موبخا إياهم على إهمالهم ، و تهاونهم في الإمساك بزمام الأمور ، فوجد المرأة المجنونة في حالة هستيرية ، وهي تحاول الدخور عنوة لمقابلته ، أمرهم بتركها و حالها ، لما مثلت أمامه ، ظل يستمع لإفادتها بهدوء ، و ببرودة أعصاب ، لحظة تلو الأخرى ، كان مترجمه يتوقف عن الترجمة ، فكان يحرجه بنظرات حادة ، آمرا إياه بالاستمرار ، و عدم التوقف ،و نقل كلماتها حرفيا .
كانت إفادتها ملغزة ، و حركاتها عنيفة ، و لحظة هم المترجم بإخراجها ثانية ، فحدجه بقسوة ، و أمره بتركها تقول ما تشاء .
ظل الضابط محتارا ، أمام سيل من الجمل و الكلمات ؛ لبعضها معنى ، و لأخرى معان مبهمة ، و في حاجة إلى كثير من النبش ، و الدقة ، و الغربلة ، استنتج ، أنها الوحيدة التي استطاعت مساعدته في الإمساك بأحد الخيوط الواهنة ، لكنها مهمة . تساءل ؛ هل يعتد بشهادة امرأة مجنونة ؟
عكف ثانية على إعادة قراءة ما دونه ، ثم أمر الحارس بإدخال زوجة الشيخ مرة أخرى ، تلا عليها كاتبه ، ما دار بينه و بين المجنونة من حوار، ثارت ثائرتها ، امتقع وجهها ، و تحشرج صوتها ، وعقبت على إدعاءاتها، بالكاذبة ، و فاقدة لكل الحجج .
أحس الضابط، أنها فعلا كانت تربطها علاقة ما "بالقناص" فحسب إفادة المرأة المجنونة ، أنها شاهدتها مرارا في أماكن نائية عن القرية ، رفقة رجل في عقده الخامس أو السادس، و أعطته تفاصيل أخرى عن رجال آخرين ، منهم من كان يأتي في هيئة عطار، أو حلايقي ، أو متسول، ومع آخرين بالجبل ، و أنها ليس من المستبعد أن تكون هي التي استدعت الغريب للحضور إلى إلى القرية ، وخططت لمقتل زوجها ، بعدما تم افتضاح أمر انتمائها للمقاومة...
ظل اللغز الوحيد الذي حير الضابط ، هو كيف تمكنت من قتلهما معا في مكانين مختلفين ، بينهما مسافة كبيرة ، دون أن يكون ذلك قد تم بمساعدة أحد ما ، ثم كيف عرفت المجنونة بكل تلك التفاصيل ، إن لم تكن لها يد في الجريمة ؟ ابتسم في مكر ، ثم استبعد الفكرة الأخيرة ، لما ستجره عليه من سخرية و حنق من طرف رؤسائه ، ، و رغم ذلك ظل يساوره الشك تجاهها ، متسائلا كيف يعقل أن تكون شاهدته الوحيدة على أمور و أحداث لم يكن له بها علم من قبل و يستحيل معرفتها و لو بالصدفة.
و لم يكد يحل المساء، حتى كان الجنود، قد اعتقلوا مجموعة من الرجال ، و الشبان ، المشتبه فيهم ، و من ضمنهم زوجة الشيخ ، بتهمة التآمر ، و المشاركة في اغتيال رجلين ، وزعزعة استقرار الأمن ، فأمر الضابط بترحيلهم جميعا نحو المركز ، لاستكمال مجريات التحقيق .
-17-
و هي تغادر القرية ، مكبلة بالأصفاد ، مثقلة بوزر أفكار سوداء ، و مثخنة الجراح ، كانت " إيزة" تبكي حظها العاثر ، و ليلتها المشؤومة ، لم تكن تظن أنها في يوم من الأيام ، ستضطر إلى قتل الرجل الذي أحبته بعنف ، من أجل زوج منحها ثقته ، و بيته ، و حياة جديدة ، لكنها ، كانت تعيش معه بجسد بدون روح ، في جو من الخداع و الكذب ، ربما كانت تنتظر فرصة أخرى ، زمنا آخر ، حلا سهلا ، حسن طريقتها ، للتخلص منه ، و من كل الذين أبادوا أهلها ، و عشيرتها ، لكن اختفاء "ميمون " المفاجئ ، أربك كل حساباتها ، و أفقدها كل قدرة على المناورة ، و أرغمها على التعلق برجل آخر ، وجدته مختلفا نسبيا ، و طوع يدها ، على الاستسلام مؤقتا ، لإذابة حقدها الدفين من أجل غد آخر ، نابدة تاريخها النضالي وراء ظهرها ، بعد الفتور الذي اعترى أغلب الخلايا ، و التضييق الذي مورس عليها ، و الإبادة و الإختراق الذي تعرضت له أخرى ، مما كسر حقدها و حلمها بشكل تدريجي، و أرغمها على الاستسلام و الانتظار... عم ضباب شريط ذكرياتها ، وهي
تسيخ السمع لأزيز محرك العربة العسكرية ، التي توقفت فجأة فوق الجسر ، ترجل الضابط
و بعض من أعوانه لتمشيط مسرح الجريمة ، أحست "إيزة " بالاختناق التمست منهم السماح لها بالنزول للحظة لقضاء حاجتها ، فتم لها ذلك تحت مراقبة جنديان ، فجأة عدت بكا ما تملك من قوة ،
و ألقت بنفسها من فوق الجسر .
(انتهى)
حميـد ركاطة
خنيفرة 28/03/2008