هوامش البهلول :ما بعد اليوم العالمي للشعر
زمن الانتصار للقصيدة ... ولي
كتبها
عبد الهادي روضي
مرَّ بي بهلول هامسا:/ "أيها الولد العصيُّ /لا تثق بالشعراءِ /لا تثق بالشعراءِ /إنهم في كلِّ فجٍ يهيمون /لا تثق بالشعراء /لاتثق بالشعراء /إنهم بالمداهنة إلي النص /يمضون /لا تثق بالشعراءِ
/لا تثق بالشعراءِ /تق بــــــالبياضِ / تَـــــرِبث رُؤاك" (1)
النكرات والمعارف:
أعترف أني لو امتلكت قدر انتسابي لقبيلة الشعراء لما تركت لهواجسي فرصة الانخطاف بي إلي هذه القبيلة الملغاة في جمهورية أفلاطون. تتعدد الأسباب لكن أهمها هذه النزعة الاستفرادية التي تعلو ذوات كثير من يحسبون ذواتهم شعراء إما بالفطرة وإما بالتكريس. لقد حضرت ملتقيات شعرية أقيمت علي هذه الأرض الشعرية الجميلة، ملتقيات كانت مضمخة في معظمها بكثير من المداهنة، وبقليل من الشعر، ثمة قلة قليلة من الشعراء تأتي لترسيخ فعل الشعر فينا، ما يثير الاستغراب والسخرية، هو هذه النرجسية المهيمنة علي عقول عدة أصوات وثنية، لم نعهد حضورها في جسد القصيدة المغربية إلا مقترنة بهذه الوثنية العميقة، أصوات تحمل وراءها جعجعة وجلبة لا طائل وراءهما، هي أصوات تأتي لتنشب أظفارها المتعفنة في وجدان القصيدة، متخذة من التملق والكبرياء جسرا لفرض أسمائها وضحالتها الشعريين، علي من خبروا مجاهيل هذه الأرض الشعرية التي ضاقت درعا بمثل هؤلاء الوثنيين، الذين يأتونها من كل فج عميق بحثا عن تكريس خارج منطق الشعر، وخارج أعراف القصيدة، هي تحديدا، أسماء ل(شعراء) و(شاعرات) يصرون علي الحضور خلال بعض الملتقيات الشعرية كصقور وهمين، تحت يافطات متعددة، تغيب عنها أدبيات الشعر، ويحضر الشطح بمعناه العامي للمغاربة. بعض هؤلاء لا يخجلون من أنفسهم فينصهرون في محافل تصر علي الصمود في وجه محاولات الوأد والطمس الرسميين، متلحفة رداء الحميمية، لست أدري بأي مقياس تخول لك النفس الشعرية أن تنصب نفسك شاعرا معرفة، وتلحق بآخرين صفة النكرات، إذ أين القصيدة والتجربة من كل هذا؟ أتعجَّبُ كل العجب لأني كلما تقصيت الشعر في حواس و(كراسات/ دواوين) هؤلاء وجدتني كالباحث عن السراب، لا أحد يمتلك ملكية حدود هذه الأرض الشعرية، لأن الشعر كائن تضيق رئتاه كلما جعلناه ملكا بيد أشخاص معينين، إن الشاعر شاعر بطبعه وبحرصه علي امتلاك القصي والنائي من الأرض الشعرية، وليس بربطة العنق، أو (كراسات) مليئة بالأخطاء التي لايرتكبها تلامذة الأقسام الأولي، إضافة إلي شحوب الرؤيا الشعرية، والافتقار إلي مستلزمات الورشة الشعرية، باختصار الشعر مملكة الروح، ولا شعر لمن لا روح له.
الانتصار لقليل من الشعر:
وا شعراه! ما عساني أفتعله علني أردع هذه النفس الأمارة بالفضح، فقد ولي زمن الانتصار للشعر، وحضر زمن الانتصار للمداهنة والاستفرادية، إسوة بشرطة المرور، يكاد يصيبني العور كلما فتحت بعض الحيز المتاح لنا للالتقاء بصوت الشعر فيما ينشر داخل المغرب من خلال بعض الهوامش علي قلتها (ملاحق جرائد، نشرات جهوية، صفحات جرائد يومية)، الأصوات عينها تتكرر، النصوص في معظمها تفتقد ناصية الشعر، ما صار يشذني هذه الأيام لتلك الهوامش صور بعض الشويعرات التي تظل أقرب للشعر من النص المرفق، مثلما صرت متحمسا إليها أيضا لألتقي بصور إحداهن مذيلة بالاسم الثلاثي هذه المرة، فتصير(سعاد طمطم) بالمداهنة(سعاد داهنة طمطم)، وهذه المداهنة غالبا ما يكون ثمنها في أعرافنا قبلة، أو رسالة عاطفية، أو موعد لقاء، يعقبه توحٌّد جسدي، ثم تنتهي المداهنة بزواج شعري ميسمه المداهنة.
هكذا يتم إقصاء الأجود والنوعي الشعري، وتدعم جمهورية الشعر بأسماء قد توصف بكل المسميات (اختر ما شئت) إلا الشعر، الكل ينشر،الكل يصدر (الكراس/ الكراسات)، الكل يقرأ الشعر، الكل يعرف الشعر، الكل يفتي في الشعر،والشعر من كل هذا براء، هناك كثير من المداهنة المجانبة حدود الممارسة الشعرية ولا أحد يتكلم فاضحا، هناك كثير من التواطؤات المفتعلة دعما للالتباس، ودعما للضحالة، لغاية تمتلكها صناديق انتخابات المؤسسات الثقافية المعروفة، الكل يُمنح بطائق الانتساب لتلك المؤسسات بلا شرط، فقط عليك أن تكون مداهنا بقبلة أو أربع قنينات من مشروب البيرة أو ما يشبهها. ما أعمق المداهنة! ما ألعن المداهنين!
لا أحد يغار علي هذه الأرض الشعرية التي تعاني الجحود من أقاربها، وظلم ذويها ممن وعدوها بالانتصار للعميق الشعري، قبل أن يجدوا ذواتهم أسري كؤوس المداهنة، لا أحد يفضح اللعبة، المداهنة فرخت (شعراء) و(شاعرات) مستنسخين مثل النعجة دولي، المداهنة فرخت أسماء شعرية لقيطة، أسماء تجيد الخبث علي أوتار القصيدة المغربية الشفافة،لا أشن حربا ولا أرغب في الاستيلاء علي عرش إيطاكا، لا أسمي أحدا ولن أسمي أحدا، لأن القصيدة علمتني أن رمح الاستعارة أبلغ من الحقيقة مهما تعامت أعين القبيلة، وحراس القصيدة العدميين عن الإدراك أو التأويل، والذين يرومهم هذا الكلام يعرفون ذواتهم كالشمس، ينبغي فهم استيعاب منطلق هذه الأوراق، هناك أسماء شعرية حقيقية في هوامش عدة من هذا المغرب، ارتوت من معين القصيدة علي امتدادها الكوني، وظلت تغرد خارج السرب، ثم أسلمت روحها لهذه المداهنة الرعناء، فخسرت مرتين: خسرت أولا روحها الشعرية مقابل تكريس لا يغني ولا يسمن من جوع، وخسرت ثانيا حميمية من كانوا يغذقون علي شعريتها، بالمقابل هناك أسماء أخري ترفض الانخراط في دنس المداهنة، لأن ما يعنيها هو فعل الكتابة مهما كان الثمن، لذلك لم نستغرب موتها ورحيلها عنا في صمت أمام تجاهل أنصار المداهنة، رافضة التنازل عن مبادئ كينونتها المبدعة، والاستجذاء باسم الكتابة.
4ـ الدعارة الشعرية:
ما جدوي الانتماء إلي هذه الأرض الشعرية إذا كان المهيمن فيها لا شعريا؟ اللوم علي تلك الأسماء التي نسيت حضورها الشعري، وعززت حضورها الجسدي الوهمي، وبدل أن تساهم في تأصيل امتداد الجميل والخلاق، تحضر لإرساء فعل دعارة شعرية بديل، متخذة من القصيدة قناعا لتحقيق مآرب شهوانية ذات منطق حيواني، هناك من يأتي أو تأتي أمسية أو ملتقي شعري ليمارس الجنس، هناك من يجيئ ليقيم أعراس مراهقته الأخيرة. هل الشعر يقتضي كل هذه الطقوس الغرائبية؟ لست مؤمنا بحدود الأخلاق، ولا أتغيا تشريع قانون يضبط ماهيتها، لكني بالمقابل مؤمن بأخلاق القصيدة مهما أصرت أن تكون طفلة مشاغبة(1)، تود الاستمتاع بحبوها،
ومراهقتها، أخلاق القصيدة هي ضوابطها وحدودها المتعارف عليها قديما وحديثا، إذ كيف لشاعر أو شاعرة لا يضبط مجرة النحو، فيرفع ما أصله النصب، وحينما لا تداهنه وتقول له عين الصواب، بنفعل ويردد خرافة تفيد بأن له الحق في أن يفعل بالكلمة ما يريد هو، بحجة الحداثة والخرق، والأصل بحجتي الضحالة والخرف المعرفي، أخاف أن يبلغ ضجر القصيد ذروته فتشن علينا العصيان، فنخسر الرهان مرتين!!.
4ـ المهيمن الشعري والجمالي:
لا أحد في هذه الأرض الشعرية ينكر مدي الحراك الشعري غير المسبوق في تاريخ الممارسة الشعرية المغربية، رغم ما يسيج هذه الممارسة من إكراهات متعددة، لكن هذا الحراك يطرح عليَّّ سؤال حدود المهيمن الشعري والجمالي في هذا الحراك المتحقق بصيغ متباينة(النشر الورقي، النشر الإلكتروني، تزايد الأسماء الشعرية، وأسماء إصداراتها)، ويجعلني مؤمنا بضرورة أن لا يحجب عني حجم الضحالة الشعرية، التي عشعشت في جسم الشعرية المغربية، وهي ضحالة مخيفة قياسا إلي ما يشوب الممارسة الشعرية من ثقوب يضيع معها الشعري والمهيمن الجمالي، لقد قرأت الكثير من النصوص الشعريية الفردية المنشورة بالصفحات الشبابية والملاحق الثقافية لبعض الجرائد المغربية، مثلما قرأت نصوصا مضمنة في (كراسات)، لكن القليل منها هو من أيقظ جذوة الشعر في دواخلي، تلك الضحالة الشعرية متأتية أساسا من الاستهال الذي دبَّ في أذهان من تطاولوا علي القصيدة ونسبوا لفظي(شاعر/ وشاعرة) إلي خربشاتهم.
الكل عندنا يكتب قصيدة النثر، والكل ينتصر لقصيدة النثر، والكل يتخذ قصيدة النثر مرفأ يخبئ وراءه عجزه وضحالته الشعريين، والكل صار مؤمنا بفتوحات قصيدة النثر، والكل يقرأ القصيدة، هناك كثر لا يقرأون الشعر ولا الأدب عامة، ومع ذلك فهم يكتبون قصيدة النثر، أتساءل هنا: هل يمتلك هذا الكل إواليات قصيدة النثر وحدودها الإجرائية؟ وهل نمارس حدود الرقابة العاشقة علي كل ما نكتبه وندفع به للنشر؟ هل نحتاج ضرورة إلي المداهنة لنؤسس انتمائنا إلي المؤسسات الثقافية؟ ثم ما جدوي الانتماء أصلا إلي تلك المؤسسات الثقافية؟أسئلة كلما غصت في تأويل أجوبتها صرت أكثر قلقا علي حاضر الشعر ومستقبله.
البهلول يقرأ شكوي الشعر:
وسط هذه الغابة من الدواوين الجديدة لشعراء مغاربة مائزين، يصرون علي الانتصار للقصيدة، وللنص الشعري الداليين علي اختمار التجربة الشعرية، وعلي فعل الإيمان بلا نهائية مجاهيل الكتابة، أجد البهلول الذي يتملكني في هذه الأوراق يتسلل بشغف طفولي إلي أضمومة "أحفر بئرا في سمائي" للشاعر محمد الصالحي، فيصيح ملء الصوت قارئا شكوي الشعر:
" سمعت الشعر
يصرخ
الويل لي!
اللويل لي!
الورثة قلة
الذهب كثير"(2).
هـــــــوامش:
(1) عبد الهادي روضي، فتوحات للرؤيا، نص شعري غير منشور
(2) مستوحاة من قصيدة (الشعر قنديل أخضر) للشاعر نزار قباني، العلم الثقافي، بمناسبة وفاة الشاعر.
(3) محمد الصالحي، أحفر بئرا في سمائي، قصيدة شكوي، سلسلة الكتاب الأول، منشورات وزارة الثقافة،مطبعة المناهل، 2000 .
http://www.azzaman.com/index.asp?fname=2008%5C04%5C04-20%5C678.htm&storytitle=