المعذبون في الأرض يكتبون عن البؤساء
عندما يكتب المعذبون في الأرض عن (البؤساء) لا أقصد بذلك توافقاً في
وجهات
النظر الأدبية بين طه حين وفيكتور هوجو في نتاجهما السالف الذكر ولكن
حقيقة ذلك
– طلاقة الأقلام الإنسانية التي جسدت محطات المعاناة في المجتمعات البشرية
برمتها، وبما أن الكتابة نتاج إنساني فاعل، ناتج عن الذات الإنسانية –
والكاتب
الحقيقي المتميز هو الذي يجسد رؤية فكرية مقدسة يهدف من خلالها إلى نقل
صورة
حية من الواقع دونما خوف وانكسار .. وأولئك الكتاب هم (المعذبون في الأرض)
في
صميم حياتنا..
والكتابات العظيمة هي بحد ذاتها هم فكري وهم ثقافي وهم نفسي .. والأدباء
والكتاب العباقرة .. هم أشد الناس معاناة وابتلاء في حياتهم .. ولاشك أن
طه
حسين والأعشى وملتون والبردوني كانوا عمياناً ولكن ليس كل أعمى هو طه حسين
أو
البردوني وإنما هم عظماء حتى ولو كانوا مبصرين – إن الشاعر الألماني هيلد
ريث
عاش نصف حياته في مستشفى الأمراض العقلية وكذلك الفيلسوف نيتشه أليس
الجنون هو
سر العبقرية.
وهذا هو ما زعمه الكاتب أنيس منصور .. في إحدى مقالاته الصحافية .. وبناء
على
ذلك لا يعد ذلك غريباً علينا، أن الإبداع في عوالم الكتابة ينبعث في سر
الإحساس
بهموم الناس التي تعبر عن هموم الكاتب أو الأديب.
وفي هذا السياق يرى الكاتب الروائي في الأدب السوفيتي الكلاسيكي الكسندر
سيرافيمو فيتش عندما كتب روايته الشهيرة (السيل الحديدي) – إذ يقول في
صددها:
"تناولت جماهير فوضوية غير منصاعة ومستعدة كل لحظة لتمزيق قادتها بالحراب
وأوصلت هذه الجماهير خلال المعاناة خلال العذاب إلى النهاية تلك اللحظة
التي
شعروا فيها أنهم منظمون بقوة ثورة أكتوبر".
وعلى ضوء هذا يؤكد لينين في رسالته إلى الكاتب في عام 1920م (إن الطبقة
العاملة
ونحن جميعاً بأمس الحاجة إلى إنتاجك).. وفيما يلي يوجز سيرفيمو فيتش
تصوراته
حولاته حول الرواية – موضحاً:
"ينبغي أن نطالب الأديب قبل كل شيء أن يكون صادقاً لايهاب الحياة بل وأن
يستمد
منها كل ما تحتويه من أحداث".
كما أشار أيضاً (إنه وضع نصب عينه مهمة تقديم حقيقة واقعية. لكن ليس حقيقة
فوتوغرافية بالطبع، إنما حقيقة جمالية). ومن هنا خلد الكسندر سيرفيمو فيتش
في
ذاكرة السرد العالمي.
وتناسقاً مع ذلك نتماهى مع مأساة شاعر البؤس الشاعر المصري العربي عبد
الحميد
الديب الذي واجه مظاهر الثراء الفاحش والظلم الاجتماعي إبان فترة
الثلاثينات
الذي واجهه شاعرنا الديب (بالتمرد) ذلك السلاح الذي فلسف به أحزان
الصعاليك
وبؤسهم من واقع حياته البائسة المكدودة في لوحات فنية رائعة .. تتسم
بالحرارة
والصدق النفي ويأتي هذا على حد زعم الكاتب محمد محمود رضوان.
وبعد أن تطرقت إلى ذلك أود التعبير أن الكتابة الأدبية غطاء نبيل وفكر سام
عندما تجسد تطلعات البشر ولا غرابة إذا زعمت أن الكاتب أو الأديب الفذ
المبدع
هو الذي يعيش في صميم ذلك الواقع المؤلم في هذه الحياة ويصورها بقلمه
إحساساً
صادقاً وانطلاقاً من هذا يخالجني نفس الشعور .. عندما رأيت أناساً يفوتهم
قطار
المستقبل. وأصبحت الحياة في نظرهم (إكس بيتر) مجرد لا شيء.. كانوا يكتوون
بجحيم
الألم دون شعور .. وينفيهم الواقع خارج نطاق الإرادة في عصر ينعم
بالرفاهية
الراقية، منغمسين في عالمهم المجهول.
إنها أجمل لحظات التماهي في الكتابة التي شعرت في عالمها إني أشعر بالتلذذ
في
الانتقام إذ وجدت نفسي انتقم لكل الكادحين وكل البؤساء المغلوبين على
أمرهم في
إرجاء كل هذا العالم الذي يعاني ظلام الليل ووابل دياجير الدكتاتور ..
الليل
يجعل العديد من الأبرياء دائماً يحلمون بطلوع النهار ..
الليل يحمل معه الظلام والظلام دائماً ما يذكرني في طفولتي بالسوداوية
والقرف
عندما كان يسدل ظلام الليل جناحه على أزقة قريتي الهادئة .. ثمة اختلاف
بين ليل
الأمس وليل اليوم .. وهذا ما سيتضح لنا بالفعل في مقولة نحدث بها المؤرخ
العالمي الشهير روجر إكيرش يقول في سياقها (إن دراسة وقع الليل على الناس
على
مر العصور تلقي الضوء على أحوال المجتمعات في زمن ما قبل الثورة الصناعية
واكتشاف الكهرباء وفي صدد ذلك يؤكد الكاتب العالمي جويس ريتشارد ولكومير
في
مقال له نشرته مجلة (Smithsonian) في عددها يناير 2001م يتضمن عنوان
(عندما
تنبح الكلاب الضالة وتفزع الأرواح من غفوتها) إذ يتتبع الكاتب في مقاله
هذا
الأستاذ إكيرش الذي أمضى ستة عشر عاماً في البحث عن أحوال الناس خلال فترة
الليل في الحقبة التي سبقت الثورة الصناعية واكتشاف الكهرباء إذ يصف
الكاتب حال
المؤرخ العالمي إكيرش وهو الآن يجلس في مطعم يتوهج نوراً دون طرفة عين
مسترخياً
يتفكر في أحوال الليالي في القرون الخوالي – عندما كان ضوء القمر خافتاً
ويثير
هالةً في النفس أو عندما كان الليل دامساً لا يكاد يلتمس لشعاع القمر فيه
أثراً
على الإطلاق أحياناً أخرى ويرى الكاتب أنه لكي يكتشف أكيرش أحوال الليل في
تلك
الفترة السحيقة كان عليه أن يتخص عدداً من الروايات المعاصرة لتلك الفترات
من
قبيل كتابات جون كراون (1682م) المسرحية حيث "يسجل أن الليل هو الوقت الذي
تندلع فيه السنة الحرائق في المدن وترتكب فيه جرائم السرقات والقتل وتنبح
فيه
الكلاب الضالة ويتعالى فيه نعاق اليوم منذراً بدنو لحظات الموت لبعض الخلق
وتفزع فيه بعض الأرواح من هجعتها وتحطم فيه الإشباح مغاليق قبورها".
وبناءً على ذلك يؤكد هذا الكاتب مقولة هذا المؤرخ إكيرش التي يزعم فيها أن
الطبقات العليا في المجتمع هي وحدها التي كان في مقورها أن تضيء بيوتها
بالشموع
واليوم تضيء بأروع القناديل ونرى الطبقة الكادحة – يراودها الأمل بالضوء
الساطع
في ظلام هذا الليل الذي بات معاصراً بكل عصرنه الظلام.