جاء في مخطوط – حديث السفينتين – لكاتبه المجهول ، أن ولاد الجهنمي دعا الملاك امارئيل الى حفلة عشاء سرية ، في كوخه الذي بناه لنفسه في الجزر البعيدة، و كانت زوجته كلثوم قد هجرته ، أو اختطفتها الالهة و هي نائمة بجواره كما جاء في سيرة أخرى ، و نرى ان سير ولاد تختلف في وقائعها اختلافا كبيرا منذ هروبه من الجنة ، و فقدان الملاك لدرعه بعد سقوطه من السماء ، كما رأينا في الجزء الأول ( 1) ، و لا أنكر بأنها في اغلبها روايات ضالة ، انزاحت عن طريق الحقيقة ، في تقصي أخبار الأقدمين و دياناتهم ، و أنها حكت خرافات عمياء يندى لها الجبين ،عن الهة غريبة ، شهوانية و أنانية ، مرعبة و كذابة و مضلة ، و كلها أضغاث أصنام اختلقتها عقول الرواة ، لما أرادوه من الهاء العباد عن اتباع نهج الصالحين الأبرار ، و الاخلاص في العبادة لرب العزة الواحد القهار ، و قد ترددت طويلا في نقل خلاصة هذا المخطوط الذي عثرنا عليه و نحن نبحث عما افترضت السير الأولى أنه درع الملاك الذهبية، لما رأيته من تضارب في الخبر بين قاص و قاص ، و لما اكتشفته من تزييف مبين ، في العبارة و الفكرة و المقصد .
غير أن المؤرخ محكوم في منهجه بتجرد مهنته قبل انتماء عقيدته ، و علمه موجب لاستعراض المذاهب جميعا و ان كان منها ما يخالف رؤيته ، وقد قالوا قديما أن ناقل الكفر غير كافر ، و هذه حجتي الوحيدة التي أدافع بها عن غرضي من كتابة هذه السيرة .
ادعى الكاتب ، أن علماء تلك البلاد أخبروه بأن الاله "مدراس " )2(، أرسل "فان" ، الى اهل الجزر البعيدة ، بعدما سقطت في قبضة الهراطقة ، و صار الملائكة الخارجون عن سطوته أقرب الى العثور مرة أخرى على الدرع العجيبة ، و ادعى ائمتهم ، أنه فكر بارسال طوفان يغرقهم جميعا قبل الوصول اليها ، و أن أهل ذلك الزمان - و العهدة على الراوي - لم يبنوا سفينة واحدة للنجاة من الطوفان ، و انما بنوا سفينتين ....
خلال ذلك العشاء السري ، الذي حضره امارائيل مع عدد من اصدقائه ملثما ، مخافة سطوة حرس السلطان ، قال ولاد لأصحابه :
- رايت البارحة في منامي ، أني اغرق في بحر متلاطم الأمواج ، فمرت سفينة عظيمة بجواري أبت أن تقذف الي بحبال النجاة ، و قد حاولت التعلق بها فرماني ربانها من عل بسهم اخترق كبدي ، و جاءني بعد ذلك رجل غريب ، لم أره من قبل ، و لا أكاد أتذكر ملامحه ، و أنا جثة هامدة في أعماق المحيط ، فحملني و سار بها الى شاطئ لم يبلغه أحد من قبل ، و هناك احسست و كأن الحياة تعود الي فجأة ، أو ربما يكون قد نفخ في فمي ، فأشعلت في أنفاسه الحارة جذوة الحياة بعد أن كنت جاوزت خط اللاعودة . فحدثني عن رجل ذي علم ، تضيع أسراره الروحانية بعد زمن ، و ذكر لي أنه سيمنحني خريطة بحر الموت التي تقودني الى الدرع التي يخشاها الاله، ان رحلت الى غرب الجزر البعيدة ، فقلت و قد غلبتني الدهشة ، و فيم تنفعني هذه الخريطة و أنا في صحراء قاحلة لا موج فيها و لا تقطعها غير جمال الرحل من الزنوج ، قال لي أن رجلا نبيا سيظهر في هذا الزمان ، و أنه سيبني سفينة في الصحراء قبل مجيء طوفان يغرق كل من اختلف معه في الرأي ، أو ناقضه في العبادة ، فان شئت ان تكون من الناجين أنت وأهلك ، فليس لك من سبيل غير الخريطة .
قال الملاك :
- ان أحاديث الطوفان وردت في الكتب الأولى )3(، و قد حكى رزبوس نفسه مرة بأنه رمى مئات السفن من قبل في قعر الجحيم ، بأمر من "مدراس" نفسه ، و ارى ان سفينتك لن تكون أكبر من سفينة هذا الرجل ، هذا ان صدقت رؤياك ، و انا اعرف بأن ارض الجزر البعيدة قد صارت مأوى للملائكة المشردين ، و للهراطقة و الملحدين من البشر ، و ان السماء تعد أمرا لانهاء هذه الفوضى الاثمة ، قبل أن تفلت الامور من بين يديها ، لذلك لا أنصحك باتباع طريق الظن ، لأن قدرة الاله ستلحقك أينما كنت ، لقد عاهدت نفسي سيدي منذ طردتني الصاعقة من الفردوس ، أن لا أعصي لك أمرا ، فقد كنت أقرب مؤمني الجنة الى قلبي ، و أنا أخدمك مع أعواني ان عزمت على بناء هذا الفلك و رسمت لنا صورته..ولو أني لا أعرف طريقا لملاقاة هذا الشيخ . .
أقام ولاد ورشة سفينته أمام هيكل السفينة الاولى ،و دار بينه و بين "فان" حوار شيق سنورده لاحقا ، فتعجب الناس و قالوا ، مابال هذا الرجل يغامر بصنع بمركب ثان ، وقد أيقن بقدوم الطوفان ، و عرف أن "مدراس" لم يبارك غير سفينة واحدة ، قال ولاد : أني أدعوكم لتخلصوا أنفسكم من محن الحساب و العقاب ، فلنرحل مع امارائيل بحثا عن الدرع الذهبية التي لا تقدر عليها صواعق السماء ، و هي مدفونة في ثرى ارض تقع بعد بحر الموت ، لم يطأها أحد من قبل ، فمن أراد الخلاص لنفسه و أهله اليوم فليركب السفينة الاولى ، و من اراد الخلاص الأبدي من كل الهة البشر ..فليركب سفينتي، فحضر أعوان الشرطة و اقتادوه الى السجن ، و هناك رأى في زنزانته ، الشيخ الذي حدثه به الغريب في المنام ، حينها أدرك أن رؤياه لم تكن أضغاث أحلام ، فقال للشيخ :
- كأنني اعرفك و لا أعرفك ..فمن تكون ..
قال الشيخ :
- دعك من اسمي و نسبي ، فقد سماني حراس الزنزانة باسماء كثيرة ، و لن يتسع صدرك لحقيقة أمري ان انا أخبرتك ، و اخبرني عن غرضك من انشاء السفينة الثانية ، و سر جرأتك التي فاقت كل الحدود .
قال ولاد:
- لقد حلمت باني أتعلم النجارة منك ، و قد وعيت بأن سفينة واحدة لن تسع كل البشر و ان وسعهم الايمان، فلكل منا قصة مختلفة مع الاله ، منا من يهابه و يخشاه و يطلب رضاه ، و منا من يريد ان يحيا في ارض بعيدة لا تطالها يداه ، لقد رأيت بأن البشر في كل عصر يكبرون أكثر ، فيحصل بينهم و بينه ما يحصل بين الاب و ابنه ، من صلة حب يتلوها التمرد ثم يتبعها العصيان فالصراع ، و ارى ان الاله قد غلبه حبه لأبنائه ، فلم يتبين بعد أنهم بدونه قد يحيون أفضل .
قال الشيخ ، و قد أصابه حزن كبير:
- اني اعرف طريق هذه الأرض التي لا يبلغها اعوان الاله ، وهي في أقصى هذا الدنيا ، و قد لا يعرفها سواي ، فما رأيك لو تحملني معك الى حيث تذهب ..و اني اخلصك من هذه الزنزانة بتعويذة سحرية، و أعلمك صناعة مركب عظيم لم ير الانس و لا الجان مثله .
قال ولاد :
- يبدو أنك اوتيت من العلم مبلغا عظيما . فهل تخبرني يا سيدي تأويل حلمي ؟
قال الشيخ :
- نعم ، لكن هل تعدني بأنك ستقص حقيقة تأويل حلمك على أهلك و اصحابك ممن سيرحلون معك ساعة نقترب من أرض الدرع الذهبية ، انك ان صدقت في وعدك صدقت في وعدي و حملتك بسلام الى حيث تريد ؟
..............
صار الرجلان في جو عاصف الامطار الى السفينة ، و كان أتباع ولاد كل من رفض الركوب في سفينة فان ، ينتظرون عودته بقلوب تنبض رجاء و رهبة ، و ما ان لاح شبحا الرجلين ، حتى فتحا أبواب الفلك العظيم الذي بناه امارائيل و اعوانه ، فدخل ولاد مكتئبا ، صامتا لا يلتفت لأحد ، ركب ظهر السفينة ، و نظر اصحابه لأصحاب السفينو الاولى ، فسال الدمع ، و علت أكف راسمة اشارات الوداع و الدعاء بالنجاة .
سارت السفينة أكثر من سنتين ، حتى اقتربوا من أرض نائية لم يسكنها أحد من قبل ، و اذاك طلب الشيخ من ولاد أن يفي بوعده ، فقال ولاد مخاطبا قومه و الدمع يتفجر من عينيه ..:
حلمت بأني وصلت لشاطى حر لا ألهة تحرسه ، و رأيت رجلا صديقا قادني من موت محقق الى هذه الأرض ، فألهمني الطريق الى الحياة, ظننت أنني أحمل في سفينتي كل من حاكمهم البشر في اساطيرهم و أديانهم ..و نسيت ..أني بهذا سأحمل بيننا رجلا أخر ، رافقنا كل هذه الرحلة .
و أشار بأصبعه الى الشيخ صارخا :
- مدراس .هوامش
----------------------
1- رابط الجزء الأول :
هنـــا2- يعتقد أن الكاتب يتحدث عن ديانات عرفتها بقاع نائية من أرض الرومان ، و لا نعرف ان كان ولاد العربي الأصل قد اعتنق هذه الديانة قديما أم أنه كان توحيديا ضالا، فالاله الاسطوري مدراس قد يعني الاله الروماني Mithras و الذي يشبه في كثير من تفاصيل حياته مسيح النصارى نفسه ، و هنا نرى ان التقابل بين الاسطورة و الديانات التوحيدية قد يكون عرضيا في النص ، موضوعيا في التاريخ .
3- اذا اعتبرنا بأن الطوفان لم يكن حدثا اسطوريا ، و انما حقيقة واقعية ، فطبيعي أن يرسخ في اذهان الكثيرين ممن عايشوا أثاره العظيمة ، و طبيعي أن تتعدد الروايات بشأنه بتعدد اللغات و الأعراق ، بما أنه حدث كوني حسب النص نفسه ، حتى أن البعض من الدارسين المغامرين قد يعتبر اسطورة اطلانتيد رواية أخرى للحدث نفسه .