الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف
يعالج هذا البحث قضية الحرية في اتصالها بقضية المجتمع المدني إزاء ظاهرة العولمة وما تفرزه من تحديات على هذه الصلة، بما يعنيه مفهوم المجتمع المدني من ممارسة للحرية، وبما تعنيه ظاهرة العولمة من تحدٍ مباشر لقضية الحرية، وقضية المجتمع المدني في آنٍ معاً، وبما تولده من إشكالية بعد ذلك تتبدى في استحقاقات عوامل داخلية وخارجية، غالباً ما تؤول إلى إكراهات للهوية من جهة، وتقويض لكيانية الدولة من جهة أخرى. وهذا كلّه يجعل من تحقق المجتمع المدني وتحقيقه للحرية موضع أزمة تاريخية وسياسية في الوقت نفسه.
ويتجه البحث إلى تأثير العولمة على استحقاقات المجتمع المدني في جانبين أولهما تحولات المثقف العضوي إلى مثقف تقني، وثانيهما تحولات الثقافة الجماهيرية من الحق بالثقافة ومكانة الثقافة في التنمية السياسية والاجتماعية إلى التباس هذا الحق وهذه المكانة، ويتضمن البحث مقدمة حول إشكالية الحرية والمجتمع المدني والعولمة، ثم يمحص هذه المفاهيم وما يتصل بها من مفاهيم أخرى مثل الهوية، ويحدد موضع إشكالية العولمة وتأثيراتها على تحقق المجتمع المدني وديمقراطيته وكيانية الدولة، ويناقش تفاعلات المثقف من جهة، والثقافة الجماهيرية من جهة أخرى، وثمة خاتمة حول أسئلة المجتمع المدني والعولمة.
1ـ مقدمة:
أثيرت قضية المجتمع المدني بقوة في الفكر العربي الحديث خلال العقد الأخير على وجه الخصوص، غير أن الالتباس مايزال السمة اللصيقة بهذا المفهوم وممارسته العربية، سواء على مستوى فهمه أو على مستوى تقصي جذوره أو على مستوى تحديد علائقه المتعددة والمتشابكة، ولاسيما الدولة والديمقراطية والمؤسسات، أو على مستوى مشكلاته وتحدياته القائمة والمتزايدة. ولربما كانت قضية الحرية هي العلاقة الأكثر تشابكاً وتعقيداً في صلتها بالمجتمع المدني، وهي علاقة متفاقمة الالتباس بالنظر إلى تحديات العولمة، بما تنتجه من تعارضات وإكراهات على مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي، فقد نهض المجتمع المدني بمصطلحه الغربي خلال القرون الثلاثة الأخيرة ضمن سيرورة المجتمع الغربي الحديث متلازماً مع تكون الدولة العصرية سلطة مهيمنة على الوطن والمواطن، وعلى إعلان حقوق الإنسان والمواطنة وحقوقها، وهو ما يصير غالباً إلى التعارض الأولي القائم بين سلطة الدولة وهيمنتها ودولة الحق والقانون المأمولة. ولعل أبرز تبعات مثل هذا التعارض هي الإكراهات الكثيرة الناجمة عن ضغوط التاريخ المندغمة بهيمنة سلطة الدولة على المواطن، وتتبدى هذه الإكراهات في أوهام متعددة عن وعي الذات الوطنية والقومية من جهة، ووصائية الدولة على المشاركة السياسية من جهة أخرى، ومدى الوفاء للتطلع الديمقراطي في عمليات إنتاج المجتمع من جهة ثالثة. ثم كان تشكل العولمة في العقدين الأخيرين ذروة التحديات التي تواجه المجتمع المدني، فالنظام العالمي الجديد «المعولم» يمضي إلى الاستتباع الخارجي وفقاً لآليات الهيمنة التي تصوغها قوى العولمة، وهي تكاد تلغي الدولة، مثلما باتت الهوية مهددة أمام «لفياثان» العولمة وهو تعبير هوبز الذي وصف به الدولة التسلطية في بدايات تكونها. وهذا كله يلقي بظلاله الثقيلة إلى حد التأزم على استحقاقات الديمقراطية التي هي أبرز سمات المجتمع المدني.
2ـ المجتمع المدني:
اتفق حشد من المفكرين والمثقفين العرب على مفهوم المجتمع المدني، إثر انعقاد ندوة «مركز دراسات الوحدة العربية» 1992)، وتبنوا فيه تعريفاً إجرائياً، وقصدوا بالمجتمع المدني «المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة، منها أغراض سياسية كما المشاركة في صنع القرار على المستوى الوطني والقومي، ومثال ذلك الأحزاب السياسية، ومنها أغراض نقابية كالدفاع عن مصالح أعضائها، ومنها أغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي الثقافي، وفقاً لاتجاهات أعضاء كل جماعة، ومنها أغراض اجتماعية للإسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية»(1) ، ومن الواضح أن هذا التعريف الإجرائي مستمد من الفهم الغربي لممارسة المجتمع المدني وتجلياته بعد ذلك في الفكر الغربي، وثمة صعوبات ذات مساس بـ«الانتقائية» في حدها الأدنى، وبـ«الفبركة» في حدها الأقصى،(2) لأن المجتمع المدني مفهوم تاريخي واجتماعي شديد الاتصال بالتحقق الذاتي للأمة وبتجربتها التاريخية وبخصوصيتها الثقافية مما يؤلف الهوية القومية، ومن العسير اجتلاب مفاهيم بعيدة عن سيرورتها التاريخية. ولعل الأيسر هو انبثاق مفهوم المجتمع المدني العربي من التجربة التاريخية العربية ضمانة لتفعيل هذا المجتمع وتحققه. فهل في مقدور المرء أن يغفل عن مفهوم المجتمع المدني في التاريخ العربي والإسلامي؟ وكيف النظر إلى مفهوم المجتمع الأهلي وفئات التجار وأصحاب الحرف والمهن والدعاة ونقابات الإشراف وجمعيات الإصلاح، وأثناء ذلك وبعده عناصر السلطان الاجتماعي والديني والقضائي السائد كشيوخ الطوائف والسلط الصوفية والروحية وإشكال التكامل الديني في عمل الأوقاف وسواها... الخ.(3)
ولا يخفى أن العمل الإصلاحي والنهضوي قد وضع مفهوم المجتمع المدني العربي على المحك في أفكار النهضويين والتنويريين العرب في القرن التاسع عشر، وهو مايزال مستمراً، بشكل أو بآخر في الحركات الإسلامية الكثيرة التي لم تكتفِ في تفكيرها بالمجتمع المدني بالرأي والشورى والإفتاء والمساجد وعمل العلماء، بل جاوزته إلى العنف الأصولي المسلح.
وتتفاقم حدة هذا السلوك السياسي والاجتماعي خطراً على المجتمع المدني كلما أمعنا النظر في مسألة عولمة هذا العنف الذي غالباً ما يندغم في تحديات النظام العالمي الجديد، ولنتأمل قليلاً حال هذا العنف في الجزائر أو مصر أو سورية وارتباطاته بظاهرة الأفغان... الخ.(4)
وهل علينا أن نغفل عن اتساع مفهوم مؤسسات المجتمع المدني التقليدية والحديثة إلى شمولها غير حكومية أهلية وخارجية في الوقت نفسه، ويضيق المقام عن ذكر هذه المؤسسات؟ وهل علينا أن نغفل عن واقعة أن إثارة قضية المجتمع المدني برمتها بهذا الاتساع وهذا العمق قد صدرت عن مراكز بحثية مازالت موضع تساؤل مثل «مركز ابن خلدون» بالقاهرة؟(5)
رأى باحثون كثر أن ثمة مؤسسات تقليدية للمجتمع المدني مثل العشيرة والقبيلة والطائفة(6) وهي مؤثرة إلى يومنا هذا بأكثر من مؤسسات المجتمع المدني الحديثة مثل الأحزاب والنقابات المهنية والمنظمات الشعبية والاتحادات الثقافية وسواها، ولو محصنا عمل مؤسسة من هذه المؤسسات الحديثة مثل حزب عربي ما لوجدنا أن تفعيل المجتمع المدني من خلاله يصادف معوقات كثيرة بتأثير المؤسسات القديمة المذكورة، إذ تتحكم العشيرة أو القبيلة أو الطائفة بطبيعة الانتماء الحزبي ومدى تحقيق أهداف هذا الحزب، ناهيك عن صلة هذه الأهداف بتفعيل المجتمع المدني.
لم تعد مؤسسات المجتمع المدني محلية أو داخلية في هذه الدولة أو تلك، على أن هذه المحلية أو الداخلية معقدة بهذا القدر أو ذاك بالنظر إلى البعد العربي أو القومي من جهة، وبالنظر إلى البعد الاتصالي الدولي الذي أتاحته تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، فقد انتفت حدود الدولة، وشاهت حدود الهوية، ففي المقام الأول صار واضحاً أن الدولة، ولاسيما التسلطية تحد من قابليات تفعيل المجتمع المدني، مثلما يكاد يتعذر مثل هذا التفعيل في ظل الدولة القطرية حيث تضيف التجزئة إلى التشرذم الذي تقوم به المؤسسات التقليدية للمجتمع المدني، وكان جورج طرابيشي سورية) قد نبه إلى مخاطر الدولة القطرية الاجتماعية والسياسية على الهوية القومية في كتابه «الدولة القطرية والنظرية القومية» 1982). لقد استبدل التنادي الأيديولوجي بتنادٍ ذرائعي إذ لم يعد نافعاً ذلك التفكيك والتقسيم، ومآله السياسي هو «البلقنة»، فأي مجتمع مدني يقوم أو يتطور في دولة قطرية تعاني، فيما تعانيه، من مشكلات المؤسسات التقليدية؟ أما المشكلات الأهم فهي صعوبات الاندماج القومي والإقليمي والدولي إزاء الاستخدام الضار لثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، وهذا يستدعي توظيفاً متعدد الأشكال والفاعليات لمعطيات هذه الثورة في تعضيد الإمكانية العربية في مواجهة التشرذم والانتقاص القومي. وبهذا المعنى يغدو التكامل العربي والتوحيد القومي سبيلاً ناجعاً لتفعيل المجتمع القومي.
لا محيص لنا، في المقام الثاني وهو تحدي البعد الاتصالي والدولي، عن الأخذ بعين الاعتبار بإيقاف هدر الإمكانية العربية مما يلقي بتبعات إضافية إلى استحقاقات الديمقراطية في بناء المجتمع المدني وتفعيله، والسؤال أيضاً في هذا السياق أي حدود للحرية أو المسؤولية السياسية والاجتماعية والأخلاقية في ظل ما يتيحه البعد الاتصالي والدولي والمعلوماتي من هيمنة للنظام العالمي الجديد ومالكيه على حساب يمنة الدولة أو الدولة القطرية بوصفها حلقة أضعف في الحفاظ على الهوية القومية؟. إن الأحلام الطوباوية «اليوتوبية» حول مجتمع جديد ديمقراطي مهزولة، وتكاد تكون معطلة بالنظر إلى مواصفات تفعيل المجتمع المدني، وحده، فلم يعد كافياً النداء بالاندماج الوطني، ما لم يتعاضد مع اندماج قومي لا يغفل عن استحقاقات مجتمع مستقل غير تابع، وتدرك نخبه السياسية والثقافية معنى الوعي التاريخي بوجود قومي كريم يفعّل الإمكانية العربية برمتها، ومنها المجتمع المدني.