مدارات
مدارات
مدارات
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مدارات


 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
محمد منير
مؤسس
محمد منير


عدد المساهمات : 1898
تاريخ التسجيل : 23/01/2008
العمر : 59

الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف Empty
مُساهمةموضوع: الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف   الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف Empty30/4/2008, 01:01




الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف



يعالج هذا البحث قضية الحرية في اتصالها بقضية المجتمع المدني إزاء ظاهرة العولمة وما تفرزه من تحديات على هذه الصلة، بما يعنيه مفهوم المجتمع المدني من ممارسة للحرية، وبما تعنيه ظاهرة العولمة من تحدٍ مباشر لقضية الحرية، وقضية المجتمع المدني في آنٍ معاً، وبما تولده من إشكالية بعد ذلك تتبدى في استحقاقات عوامل داخلية وخارجية، غالباً ما تؤول إلى إكراهات للهوية من جهة، وتقويض لكيانية الدولة من جهة أخرى. وهذا كلّه يجعل من تحقق المجتمع المدني وتحقيقه للحرية موضع أزمة تاريخية وسياسية في الوقت نفسه.‏
ويتجه البحث إلى تأثير العولمة على استحقاقات المجتمع المدني في جانبين أولهما تحولات المثقف العضوي إلى مثقف تقني، وثانيهما تحولات الثقافة الجماهيرية من الحق بالثقافة ومكانة الثقافة في التنمية السياسية والاجتماعية إلى التباس هذا الحق وهذه المكانة، ويتضمن البحث مقدمة حول إشكالية الحرية والمجتمع المدني والعولمة، ثم يمحص هذه المفاهيم وما يتصل بها من مفاهيم أخرى مثل الهوية، ويحدد موضع إشكالية العولمة وتأثيراتها على تحقق المجتمع المدني وديمقراطيته وكيانية الدولة، ويناقش تفاعلات المثقف من جهة، والثقافة الجماهيرية من جهة أخرى، وثمة خاتمة حول أسئلة المجتمع المدني والعولمة.‏
1ـ مقدمة:‏
أثيرت قضية المجتمع المدني بقوة في الفكر العربي الحديث خلال العقد الأخير على وجه الخصوص، غير أن الالتباس مايزال السمة اللصيقة بهذا المفهوم وممارسته العربية، سواء على مستوى فهمه أو على مستوى تقصي جذوره أو على مستوى تحديد علائقه المتعددة والمتشابكة، ولاسيما الدولة والديمقراطية والمؤسسات، أو على مستوى مشكلاته وتحدياته القائمة والمتزايدة. ولربما كانت قضية الحرية هي العلاقة الأكثر تشابكاً وتعقيداً في صلتها بالمجتمع المدني، وهي علاقة متفاقمة الالتباس بالنظر إلى تحديات العولمة، بما تنتجه من تعارضات وإكراهات على مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي، فقد نهض المجتمع المدني بمصطلحه الغربي خلال القرون الثلاثة الأخيرة ضمن سيرورة المجتمع الغربي الحديث متلازماً مع تكون الدولة العصرية سلطة مهيمنة على الوطن والمواطن، وعلى إعلان حقوق الإنسان والمواطنة وحقوقها، وهو ما يصير غالباً إلى التعارض الأولي القائم بين سلطة الدولة وهيمنتها ودولة الحق والقانون المأمولة. ولعل أبرز تبعات مثل هذا التعارض هي الإكراهات الكثيرة الناجمة عن ضغوط التاريخ المندغمة بهيمنة سلطة الدولة على المواطن، وتتبدى هذه الإكراهات في أوهام متعددة عن وعي الذات الوطنية والقومية من جهة، ووصائية الدولة على المشاركة السياسية من جهة أخرى، ومدى الوفاء للتطلع الديمقراطي في عمليات إنتاج المجتمع من جهة ثالثة. ثم كان تشكل العولمة في العقدين الأخيرين ذروة التحديات التي تواجه المجتمع المدني، فالنظام العالمي الجديد «المعولم» يمضي إلى الاستتباع الخارجي وفقاً لآليات الهيمنة التي تصوغها قوى العولمة، وهي تكاد تلغي الدولة، مثلما باتت الهوية مهددة أمام «لفياثان» العولمة وهو تعبير هوبز الذي وصف به الدولة التسلطية في بدايات تكونها. وهذا كله يلقي بظلاله الثقيلة إلى حد التأزم على استحقاقات الديمقراطية التي هي أبرز سمات المجتمع المدني.‏
2ـ المجتمع المدني:‏
اتفق حشد من المفكرين والمثقفين العرب على مفهوم المجتمع المدني، إثر انعقاد ندوة «مركز دراسات الوحدة العربية» 1992)، وتبنوا فيه تعريفاً إجرائياً، وقصدوا بالمجتمع المدني «المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة، منها أغراض سياسية كما المشاركة في صنع القرار على المستوى الوطني والقومي، ومثال ذلك الأحزاب السياسية، ومنها أغراض نقابية كالدفاع عن مصالح أعضائها، ومنها أغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي الثقافي، وفقاً لاتجاهات أعضاء كل جماعة، ومنها أغراض اجتماعية للإسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية»(1) ، ومن الواضح أن هذا التعريف الإجرائي مستمد من الفهم الغربي لممارسة المجتمع المدني وتجلياته بعد ذلك في الفكر الغربي، وثمة صعوبات ذات مساس بـ«الانتقائية» في حدها الأدنى، وبـ«الفبركة» في حدها الأقصى،(2) لأن المجتمع المدني مفهوم تاريخي واجتماعي شديد الاتصال بالتحقق الذاتي للأمة وبتجربتها التاريخية وبخصوصيتها الثقافية مما يؤلف الهوية القومية، ومن العسير اجتلاب مفاهيم بعيدة عن سيرورتها التاريخية. ولعل الأيسر هو انبثاق مفهوم المجتمع المدني العربي من التجربة التاريخية العربية ضمانة لتفعيل هذا المجتمع وتحققه. فهل في مقدور المرء أن يغفل عن مفهوم المجتمع المدني في التاريخ العربي والإسلامي؟ وكيف النظر إلى مفهوم المجتمع الأهلي وفئات التجار وأصحاب الحرف والمهن والدعاة ونقابات الإشراف وجمعيات الإصلاح، وأثناء ذلك وبعده عناصر السلطان الاجتماعي والديني والقضائي السائد كشيوخ الطوائف والسلط الصوفية والروحية وإشكال التكامل الديني في عمل الأوقاف وسواها... الخ.(3)‏
ولا يخفى أن العمل الإصلاحي والنهضوي قد وضع مفهوم المجتمع المدني العربي على المحك في أفكار النهضويين والتنويريين العرب في القرن التاسع عشر، وهو مايزال مستمراً، بشكل أو بآخر في الحركات الإسلامية الكثيرة التي لم تكتفِ في تفكيرها بالمجتمع المدني بالرأي والشورى والإفتاء والمساجد وعمل العلماء، بل جاوزته إلى العنف الأصولي المسلح.‏
وتتفاقم حدة هذا السلوك السياسي والاجتماعي خطراً على المجتمع المدني كلما أمعنا النظر في مسألة عولمة هذا العنف الذي غالباً ما يندغم في تحديات النظام العالمي الجديد، ولنتأمل قليلاً حال هذا العنف في الجزائر أو مصر أو سورية وارتباطاته بظاهرة الأفغان... الخ.(4)‏
وهل علينا أن نغفل عن اتساع مفهوم مؤسسات المجتمع المدني التقليدية والحديثة إلى شمولها غير حكومية أهلية وخارجية في الوقت نفسه، ويضيق المقام عن ذكر هذه المؤسسات؟ وهل علينا أن نغفل عن واقعة أن إثارة قضية المجتمع المدني برمتها بهذا الاتساع وهذا العمق قد صدرت عن مراكز بحثية مازالت موضع تساؤل مثل «مركز ابن خلدون» بالقاهرة؟(5)‏
رأى باحثون كثر أن ثمة مؤسسات تقليدية للمجتمع المدني مثل العشيرة والقبيلة والطائفة(6) وهي مؤثرة إلى يومنا هذا بأكثر من مؤسسات المجتمع المدني الحديثة مثل الأحزاب والنقابات المهنية والمنظمات الشعبية والاتحادات الثقافية وسواها، ولو محصنا عمل مؤسسة من هذه المؤسسات الحديثة مثل حزب عربي ما لوجدنا أن تفعيل المجتمع المدني من خلاله يصادف معوقات كثيرة بتأثير المؤسسات القديمة المذكورة، إذ تتحكم العشيرة أو القبيلة أو الطائفة بطبيعة الانتماء الحزبي ومدى تحقيق أهداف هذا الحزب، ناهيك عن صلة هذه الأهداف بتفعيل المجتمع المدني.‏
لم تعد مؤسسات المجتمع المدني محلية أو داخلية في هذه الدولة أو تلك، على أن هذه المحلية أو الداخلية معقدة بهذا القدر أو ذاك بالنظر إلى البعد العربي أو القومي من جهة، وبالنظر إلى البعد الاتصالي الدولي الذي أتاحته تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، فقد انتفت حدود الدولة، وشاهت حدود الهوية، ففي المقام الأول صار واضحاً أن الدولة، ولاسيما التسلطية تحد من قابليات تفعيل المجتمع المدني، مثلما يكاد يتعذر مثل هذا التفعيل في ظل الدولة القطرية حيث تضيف التجزئة إلى التشرذم الذي تقوم به المؤسسات التقليدية للمجتمع المدني، وكان جورج طرابيشي سورية) قد نبه إلى مخاطر الدولة القطرية الاجتماعية والسياسية على الهوية القومية في كتابه «الدولة القطرية والنظرية القومية» 1982). لقد استبدل التنادي الأيديولوجي بتنادٍ ذرائعي إذ لم يعد نافعاً ذلك التفكيك والتقسيم، ومآله السياسي هو «البلقنة»، فأي مجتمع مدني يقوم أو يتطور في دولة قطرية تعاني، فيما تعانيه، من مشكلات المؤسسات التقليدية؟ أما المشكلات الأهم فهي صعوبات الاندماج القومي والإقليمي والدولي إزاء الاستخدام الضار لثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، وهذا يستدعي توظيفاً متعدد الأشكال والفاعليات لمعطيات هذه الثورة في تعضيد الإمكانية العربية في مواجهة التشرذم والانتقاص القومي. وبهذا المعنى يغدو التكامل العربي والتوحيد القومي سبيلاً ناجعاً لتفعيل المجتمع القومي.‏
لا محيص لنا، في المقام الثاني وهو تحدي البعد الاتصالي والدولي، عن الأخذ بعين الاعتبار بإيقاف هدر الإمكانية العربية مما يلقي بتبعات إضافية إلى استحقاقات الديمقراطية في بناء المجتمع المدني وتفعيله، والسؤال أيضاً في هذا السياق أي حدود للحرية أو المسؤولية السياسية والاجتماعية والأخلاقية في ظل ما يتيحه البعد الاتصالي والدولي والمعلوماتي من هيمنة للنظام العالمي الجديد ومالكيه على حساب يمنة الدولة أو الدولة القطرية بوصفها حلقة أضعف في الحفاظ على الهوية القومية؟. إن الأحلام الطوباوية «اليوتوبية» حول مجتمع جديد ديمقراطي مهزولة، وتكاد تكون معطلة بالنظر إلى مواصفات تفعيل المجتمع المدني، وحده، فلم يعد كافياً النداء بالاندماج الوطني، ما لم يتعاضد مع اندماج قومي لا يغفل عن استحقاقات مجتمع مستقل غير تابع، وتدرك نخبه السياسية والثقافية معنى الوعي التاريخي بوجود قومي كريم يفعّل الإمكانية العربية برمتها، ومنها المجتمع المدني.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منير
مؤسس
محمد منير


عدد المساهمات : 1898
تاريخ التسجيل : 23/01/2008
العمر : 59

الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف Empty
مُساهمةموضوع: رد: الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف   الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف Empty30/4/2008, 01:02


3ـ العولمة:‏
لا محيد من الاندراج بالعولمة بوصفها ظاهرة كونية شاملة للتطور التاريخي، على أن الذي يفيد أكثر هو الإسهام الفعلي في إنتاجها، لا مجرد استهلاكها والدوران في مداراتها السلبية والمستضعفة والاستتباعية لمراكز خارجية، وغني عن القول أن العولمة ليست ظاهرة ثقافية فحسب، لأنها في صلب التواصل الكوني، تجارةً واقتصاداً واستهلاكاً للخيرات المادية والمعنوية. ولم تكتف العولمة باختراق حدود الدولة أو استحداث شبكة اتصالات كونية تنظم علاقات الأفراد والجماعات دون رقابة هذه الدولة مما جعل دور الدولة، أو الأمة بتعبير أوسع وظيفياً في هذه الشبكة الكبرى، ويذكر كتاب جديد عن العولمة هو «العولمة المتوحشة» 2000 بالفرنسية لمؤلفه باليس ليمبوين Blaise Lempeu) إن أحد أبرز طوابع العولمة هو التعددية القومية، ففي عام 1998 بلغ عدد هذه القوميات نحو خمسين ألفاً إلى جانب 450 ألف شبكة للمعلوماتية الإنترنت)، وبالمقابل ثمة شركات عولمية تملك قوة مالية ضخمة تفوق في نفوذها مجموعة من الدول مجتمعة، وتطبق هذه الشركات استراتيجيات على مستوى عالمي ملموسة النتائج في مجالات الحياة اليومية كافة داخل المجتمعات القومية، فلم يعد الانتماء الوطني أو القومي نقياً، إذ مازجته دوافع واتجاهات وميول يفرضها سياق العولمة، وتحكمت قوانين هذا السياق بمعايير الانتماء وما يليها من رضوخ أو إملاء لاستحقاقاته، وكأن المجتمع المدني بعد ذلك في إطار الدولة أو الأمة أقرب إلى الوهم، ويتضح ذلك بجلاء لدى معاينة أدوار المنظمات غير الحكومية التي توازي اجتماعياً وثقافياً وإنسانياً أدوار الشركات عابرة القارات والجنسيات والقوميات، أي أنها عابرة لحدود الدولة أو الأمة، ويتضاعف تأثيرها أمام المؤسسات التقليدية للمجتمع المدني أو المؤسسات الحديثة المحكومة بوضعية الدولة والأمة نفسها في الممارسة السياسية والاجتماعية والإنسانية، ولا يخفى أن المنظمات غير الحكومية تتمتع باستقلالية ما مستورة أو علنية، وقد حذت حذوها، وسارت في ركابها منظمات أهلية ومدنية كثيرة جاوزت في انتمائها الالتزام بالدولة أو الأمة، ولعل الحديث عن أن مثل هذه الالتزامات الخارجية مندغمة في سياسات معارضة داخلية ليس مبالغاً، وغالباً ما تعمل هذه المؤسسات غير الحكومية على معارضة سياسات الدولة أو الأمة بقصد التغيير أو الإصلاح أو التطوير فيما ينسجم مع عناصر الهوية القومية أو لا ينسجم في مجرد إثارته أو توقيت إثارته أو مواءمته لعمليات إنتاج المجتمع، فقد تنتفي تبعات إثارة قضايا البيئة ولكن قضايا مثل التنمية والنسيج القومي الاجتماعي قد تثير أزمات داخلية غير محسوبة أو مأمونة كإثارة قضية الفئات الاجتماعية والأناسية مما تطلق عليه بعض الدوائر اسم «الأقليات»، ولربما كان الحديث في بعض قضايا التنمية داعياً للبلبلة ما لم ينبثق من تطور اجتماعي داخلي مثل الحديث عن بعض قضايا السكان كالمساواة بين الرجل والمرأة أو ما يسمى «بالجندر»، ولا يخفى أن حديث حقوق الإنسان أصبح مطية لسدنة النظام الدولي الجديد، وغالباً ما يوظّف في إطار التدخل في الشؤون الداخلية للدول.‏
أما حق المواطنة فقد تبدل كثيراً في ظل العولمة، وهو المنطلق الرئيس لدعوة المجتمع المدني، ما دام مفهوم سيادة الدولة أو الأمة قد أصابه التبدل أيضاً. ويتصل هذا التبدل بمجالات الانتماء وما تورثه من تعارضات بين حقوق المواطنة على مستوى وطني أو قطري، ومستوى قومي، ومستوى إقليمي، جغرافي، سياسي أو فضاء ديني أو سواه، مما يؤثر سلباً على الهوية.‏
ولعلنا لا نغفل عن أمر في غاية الأهمية من دواعي العولمة على المجتمع المدني، وهو ضغوط التنمية ومعدلات النمو وتوزيع الثروة وتباينات الوفرة الشاسعة بين دول الشمال ودول الجنوب، وهذا في صلب تحقق المجتمع المدني، ولاسيما اشتراطات الديمقراطية.‏
لقد تعددت تعريفات «العولمة» حتى أن بعضهم اقترح تعريفاً آخر لها هو «الكوكبة» إسماعيل صبري عبدالله)، غير أن أقربها دلالة هو جعل نمط العيش والثقافة عالمياً، لئلا نأخذ بجانبها السلبي فقط الذي يرى فيها توحيداً للاستهلاك وخلقاً لعادات استهلاكية على نطاق عالمي، وأضاف بعضهم لمجالاتها المال والتسويق والمبادلات والاتصال. ويتفق هذا التعريف مع الذين يقولون إن العولمة هي نقل الشيء من النطاق الوطني أو القومي إلى النطاق العالمي، غير أن هذا التعريف هو الأشمل بتقديري. ولما كانت الولايات المتحدة هي القادرة على جعل هذا النمط أو ذاك عالمياً، وجعله على طرائقها وتنظيمها المجتمعي والكوني، فإن العولمة تغدو بتعريفها الحالي أمركة العالم، وهو طموح قديم للولايات المتحدة، حيث قال الرئيس الأمريكي غروفر كليفلاند 1893م): «إن دور أمريكا الخلاق هو تحضير العالم، ليصبح أمة واحدة تتكلم لغة واحدة»، وعبّر عن هذا الطموح، فيما تلا، بعبارة النظام العالمي الجديد بزعامة الولايات المتحدة، وهو شعار الدولار الأمريكي الذي أخذ شكله منذ نهاية القرن التاسع عشر، إذ يوجد على الدولار صورة لهرم تعلوه عين إنسان، ووضعت في أسفل الهرم عبارة «النظام العالمي الجديد».‏
وتؤثر «العولمة» سلبياً في الطرف الضعيف الواهن، ففي الاقتصاد والمال، تفتقر دول العالم الثالث إلى الفعالية في «العولمة»، لأنها مستهلك أولاً، ومستهلك للمنتجات الأقل قيمة ثانياً؛ ويتفاقم التأثير السلبي في مجالات العلم والتقنية والمعلوماتية والاتصالات، لأنها لا تنتج، أو لا تشكل مشاركتها في الإنتاج العالمي نسبة تذكر، وهذا يعني أن الخاسر في العولمة هو الأضعف في حلقة الإنتاج، ليكون في النهاية مستهلكاً، متلقياً، مستلب الإرادة والفاعلية. وفي العولمة الثقافية، نميز دائماً بين مفهومها، «أمركة للعالم»، وبين مفهومها، نظاماً عالمياً ثقافياً جديداً، يقوم على احترام مبادئ عقد التنمية الثقافية الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1989م. وهي مراعاة البعد الثقافي للتنمية، وتأكيد الهوية الثقافية وإثرائها، وتوسيع نطاق المشاركة في الحياة الثقافية، وتعزيز التعاون الثقافي الدولي. ولعل الفرق بين المفهومين واضح، لا لبس فيه، إذ يتبدى في إشكالية السيطرة العالمية الكامنة في العولمة عبر إنتاجها الاحتكاري لأدوات الهيمنة.‏
والسؤال الضاغط: كيف ينتج المجتمع المدني في ظل الاستتباع؟ وكيف يفعّل هذا المجتمع الذي تتناوشه قوى اجتماعية داخلية تعاني من الاستتباع والهيمنة الخارجية، وهما طابعا العولمة.‏
غير أن أهم الأسئلة تتصل بالمناحي التالية:‏
أ ـ حدود التحكم بآلية العولمة، إذ هي مرشحة للتنامي الذي يحمل معه مخاطر متزايدة بتأثير التطور المعلوماتي والتقني، وبتأثير طغيان الهيمنة بالنظر إلى امتداد الشركات الاحتكارية المتحكمة بعناصر القوة القائمة والقادمة من المال والاقتصاد إلى التقنية والمعلوماتية والاتصالات، وهي عناصر باتت أقوى من السلاح العسكري والتقليدي وسواه.‏
إن الحديث عن المجتمع المدني في ظل العولمة يعني إخضاع قوى إنتاج المجتمع إلى عناصر هذه القوة، فما مدى امتلاك مؤسسات المجتمع المدني، معزولة عن الدولة، أو معارضة لها، لاستقلالية الحراك الاجتماعي والوعي بالتاريخ وتفعيل المجتمع المدني؟‏
ب ـ الحدود القانونية لانتشار العولمة، وتعارضاتها مع الهوية، ففي العولمة لا هوية إلا بمنطقها، أما المتضررون والخاسرون من العولمة فهم الضعاف الفقراء من إمكانية الإسهام في عناصر القوة القائمة والقادمة.‏
فكيف تتحرك مؤسسات المجتمع المدني ما لم تنقلب على دولتها وتمضي في الإخضاع والاستتباع إلى منتهاه؟ لقد وجّه مثقفو المجتمع المدني في ممارسته الصارخة عداءً للدولة على أنه تبتلع الإنسان وحريته معاً ذبذبةً بين إدارة الصراع والاختلاف بشكل سلمي، بتعبير سعد الدين إبراهيم واحتضان المصالح النامية وحرية التعبير عنها وهي غالباً اقتصادية ومالية تحتاج إلى لبوس اجتماعي مدني بتعبير عدد من المثقفين الدعاة للمجتمع المدني.‏
جـ ـ العولمة في سبيلها لإلغاء مفهوم السيادة ضمن حدود ما، لأنها بلا حدود، وتتحرك في مجال عالمي عابر للحدود، وهذه الحدود في سبيلها للانفتاح أمام نشاطات العولمة: الاقتصادية والتجارية والمالية والاتصالية والتقنية..الخ. فأي نشاط أو فعالية للمجتمع المدني خارج الاستتباع مادام تحقق هذا المجتمع مرهوناً باستقلالية عن الدولة أو بنفيها؟‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منير
مؤسس
محمد منير


عدد المساهمات : 1898
تاريخ التسجيل : 23/01/2008
العمر : 59

الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف Empty
مُساهمةموضوع: رد: الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف   الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف Empty30/4/2008, 01:03

4ـ الهويــة:‏
لقد صار الحوار حول القضايا المتصلة بالهوية وتحدياتها إلى إمعان التفكير العربي في تأثير المتغيرات على الهوية في نزوعات التغريب على وجه الخصوص، ولاسيما امتدادات الهيمنة والمركزية الغربية التي تأخذ شكلها الصارخ في «العولمة». مثلما استفحل الوعي الحاد بالهوية في أتون المتغيرات العاصفة بعد حرب الخليج الثانية 1991) التي تزامنت مع متغيرات دولية أشمل، أو عجلت بهذه المتغيرات، وأفرزت ضغوطات أشد على الهوية تمثلت بالنسبة للعرب في أمرين، أولهما العولمة، كما أشرنا، وهي تطوير لآليات الاستقطاب والاستلاب والتغريب والتبعية والغزو والاختراق والتغطية، وثانيهما التطبيع الذي يعني إكراه العرب على القبول بعدوهم العنصري التوسعي المحتل «إسرائيل الصهيونية»، والتحالف معه، وتأبيد احتلاله للأرض، واقتسام الثروات العربية من السماء إلى الماء إلى الخيرات الأخرى.‏
إن القبول بالأمرين معاً يندرج في البحث الواسع لما يسمى بإكراهات الهوية نحو الإذعان والاستسلام لشروط القاهر على المقهور، ويعني ذلك ـ فيما يعنيه ـ المحو الذاتي ليس بجعل الهوية واستحقاقاتها أوهاماً فحسب، بل بتكييف شروط الهوية لإملاءات الهيمنة العالمية المركزيات الغربية وحليفتها إسرائيل).‏
عني المفكرون القوميون كثيراً بموضوع الهوية وحدودها التي باتت محاصرة بحدود أخرى للدولة القطرية والمحيط الإقليمي والتجاذبات الدولية، مما أنهك الوجدان القومي المنضغط تحت وطأة الهزائم والانكسارات والخيبات المتراكمة، فدعا نديم البيطار لبنان) إلى تجديد الخطاب القومي ترسيخاً لفهم الهوية، ونبذ الحتمية الوحدوية بالتحليل العلمي المنظم لواقعها التاريخي والحضاري في رؤية تحررية.(7)‏
وهكذا، لا تفترق غائية العولمة عن توظيف التطبيع لنفي الذات القومية عندما تبلغ إكراهات الهوية حدودها القصوى، فتنعدم قابليات المقاومة وثقافة المقاومة، وهي في جوهرها الوعي بالذات داخل الممارسة القومية والوطنية لمختلف مجالات الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولا يخفى، ونحن بصدد الخطاب الثقافي وتحدي التطبيع، أن نضوج الخبرة النضالية في مقاومة التطبيع يندرج في العمل القومي وكفاح الأمة العربية في حفاظها على الهوية، وفي تحصينها للذات، متجاوباً مع عمليات المقاومة الأخرى: الغزو الثقافي في مفاصله الملتبسة والواضحة، من التبعية الجائرة إلى العولمة القاهرة.‏
وعندما نتحدث عن المجتمع المدني متجنبين ضغوط العولمة على الجوهر الصلب للذات القومية، فإن مخاطر واسعة ما تلبث أن تنداح في الممارسة السياسية والاجتماعية.‏
أثار تنامي أبحاث الهوية إشكاليات متعددة تمثلت في تشريح عنيف ومباشر وتحليل نقدي متواصل لإكراهات الهوية، ولا سيما التغريب والتبعية والغزو والتطبيع والعولمة تعزيراً للعناصر الباقية للذات القومية وللتراث العربي الحي ولمعوقات التقدم في العلاقات بالسلطة والديمقراطية والعلم والعقل والقومية، وقد تجاوبت أصداء هذه التحديات في الضمير الثقافي العربي الحديث تدعيماً للوعي الذاتي، وتوكيداً لمواجهة إكراهات الهوية بتعضيد الخصائص العربية وتدعيم التنمية المستقلة في خضم تيار الاستجابة الفاعل في مواجهة التحديات المصيرية.‏
وقد اعترف عتاة الفكر السياسي الغربي بضغوط العولمة على الهوية حتى صارت إلى «أوهام الهوية»، وهو عنوان كتاب «جان فرانسوا بايار» فرنسا)، «فالحركة العامة الرامية إلى إزالة الحواجز بين المجتمعات «بالعولمة» و«الكوكبة» مصحوبة باحتدام وتأجج الهويات الخاصة سواء كانت عقائدية أو قومية أو أثنية... وتتطلب تبانيات تلك الظواهر العقلانية والاستيهامية في الوقت نفسه أن تتفهم بقدر أكبر دوافع العولمة ونقيضها المتمثل في الاحتماء بالهوية».(8
لقد تفاقم الإحساس بقلق الهوية لدى المفكرين والمثقفين العرب خلال العقد الأخير أكثر من أي وقت مضى، كما لاحظنا، إذ أظهر الفكر العربي مخاوفه من الغرب عموماً، منذ اتصاله الباكر معه في القرن التاسع عشر، وتضاعفت هذه المخاوف مع تعدد أشكال معوقات وعي الذات من الاستعمار إلى التبعية إلى العولمة. وتثار المخاوف الآن ليس لدى المفكرين العرب وحدهم، بل لدى مثقفي ومفكري اليسار الجديد، ولدى نقاد نظرية الاستعمار وإمبريالية الثقافة داخل الدوائر الغربية والأمريكية نفسها من أبناء المستعمرات أو دول الجنوب، وعلى رأسهم إدوارد سعيد الذي وضع مجلداً ضخماً هو «الثقافة والإمبريالية» 1993 بالإنكليزية)، بعد مصنفات ذات أهمية قصوى في بابها مثل «الاستشراق» 1978 بالإنكليزية) و«تغطية الإسلام» 1982 بالإنكليزية)، وتكشف مقالة أخيرة له عن قلق الهوية بامتياز: «الهوية: بالولادة أم الاختيار؟» مستهجناً دعوات التهوين بالتفكير بالهوية: «والأفضل أن نقبل ببعضنا، في أسرع ما يمكن، أعضاء كاملي العضوية في دولة علمانية واحدة مزدوجة القومية، بدل الاستمرار في ما وصفه البعض باستهانة على أنه «حرب رعاة» بين قبيلتين. إن اختيار تلك الهوية يعني صنع التاريخ، أما عدم اختيارها فيعني الاندثار».(9)‏
وبلغ قلق الهوية مبلغاً أشد حدة، جعل غير المنتمين يتلمسون مخاطرها، وضرورة مواجهتها مثل المنتمين تماماً، فلهج المنتمون بعدم تجاهل التقدم التكنولوجي المتسارع الذي يشهده العالم، فيصبح «السؤال هو: كيف تستطيع الدول النامية أن تستفيد من الجوانب الإيجابية للعولمة، وأن تعظم مغانمها منها؟ وكيف تقلل من آثارها السلبية ومن مغارمها؟ التحدي الحقيقي إذن ليس في الانصياع المطلق أو الرفض التام، ولكن في كيفية التعامل الإيجابي مع العولمة»، بتعبير علي الدين هلال مصر).(10) أما غير المنتمين فيعبر عنهم الكاتب الفرانكفوني أمين معلوف لبنان) في كتابه «الهويات القاتلة» 1998)، ويرى فيه أن العولمة والهوية على طرفي نقيض.‏
إن التفكير العربي مأزوم بقلق الهوية، وبثقل هذا القلق على مضاعفة الإحساس المأساوي بالمصير العربي في مطالع الألفية الثالثة.‏
وفي مثل هذه التحديات التي تواجه الهوية إزاء العولمة يجري الحديث عن المجتمع المدني وتفعيله تجاهلاً لاستكمال بناء مؤسسات الدولة نفسها التي هي ضمانة المواطنة وحقوقها، وهذا يقودنا إلى الإقرار بأهمية مجاوزة الرفض الحاصل ضد الدولة وضد إكراهات الهوية الأخرى ومواجهة الأسباب الداخلية بتعبير عبدالقادر بن الشيخ ورفاقه «لأن مسألة الهوية هي في علاقة جدلية بمسألة تنظيم العالم».(11)‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منير
مؤسس
محمد منير


عدد المساهمات : 1898
تاريخ التسجيل : 23/01/2008
العمر : 59

الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف Empty
مُساهمةموضوع: رد: الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف   الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف Empty30/4/2008, 01:05



5ـ من المثقف العضوي إلى المثقف التقني:‏
أعاد غرامشي أهمية المعرفة والثقافة والمثقف في الممارسة السياسية للماركسية، حين أثار، في سياق رؤية تفاعلات المثقف مع مجتمعه من جهة، ومع الحركة التاريخية من جهة أخرى، قضية جوهرية لطالما أغفلت الماركسية مكانتها، وهي أن العامل الاقتصادي ليس الوحيد أو الرئيس في عمليات إنتاج المجتمع، على أن إنتاج المعرفة يمثل ذروة الوعي الاجتماعي، مما جعل إعادة النظر في الفهم الفج أو المبتذل للثورة الثقافية ضرورة، وهو ما ظهرت تبعاته الرهيبة والقاهرة في تطبيقها الصيني في ستينيات القرن العشرين. ليست البنية الفوقية معزولة عن البنية التحتية، وإذا كان الطابع الجدلي سمة الممارسة السياسية والحراك الاجتماعي والوعي بالتاريخ، فإن تكون الدولة مرتهن بتكون المؤسسات الرسمية والأهلية معاً، وهي بمجموعها تؤلف المجتمع المدني، إذ تتعسر فعالية المؤسسة الأهلية في ظل غياب أو تغييب المؤسسة الرسمية أو الدولة بعد ذلك، ضمانة ممارسة الحق والخير للبشر، أفراداً متساوين في المجتمع، وما جوهر الحق والخير إلا تطويع لمفهوم سائر هو أن البنى الفوقية ذاتها مظهر لعمليات إنتاج المجتمع، ولاسيما نظرية المعرفة التي صارت إلى سلطة في الراهن والمستقبل، أي أن المثقف صاحب فعالية في الفكر السياسي وفي الممارسة السياسية في الوقت نفسه، ويندغم هذا الفهم في فكرة المثقف العضوي واتصالها الوثيق بفكرة الهيمنة التي أطلقها ماركس لصيقة بمعرفة الطابع التاريخي للبنية التحتية وتطورها إلى ديكتاتورية البروليتاريا حين كان الصراع في تحليله آنذاك قائماً بين الطبقتين الكبيرتين المتناقضتين، البرجوازية والبروليتارية. وقد برهن غرامشي، مستنداً إلى تحقق الثورة الديمقراطية البرجوازية في ثورة اشتراكية(12) أن مفهوم الهيمنة مرتهن للعلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، وركيزتها المثقف العضوي الذي يصوغ مفهوم الهيمنة، ويحدد سبل ممارسته بفعاليته العضوية على أن الحرية والتقدم خلاصاً للمجتمع يكمنان في تفعيل المجتمع المدني والمثقف العضوي الذي يمارس وظيفة الهيمنة خلل إنتاج معرفة وثقافة وفكر هو إنتاج اجتماعي متطور يساوق التحول الاجتماعي الذي يدغم الطبقات في آلية مختلفة عن مفهوم الطبقتين المتصارعتين البرجوازية والبروليتاريا، وهذا ما يعلنه إنتاج المجتمع بقواه الجديدة: مؤسسات الدولة والمؤسسات الأهلية. إن آلية جديدة باتت مطروحة هي المجتمع المدني والمثقف العضوي الذي يفعّله حين تصير الهيمنة إلى ناتج الصراع بين قوى المجتمع الجديدة، وفي مقدمتها المثقف. ولعلنا لا نغفل عن صيرورة الهيمنة داخل بلد واحد، إذ أصبح لها بعدها الخارجي الذي يشارك قوى الداخل، أجنبية أو شبه أجنبية أو مستغربين أو مرتبطين، وبدا ذلك جلياً مع استحالة «بناء الاشتراكية في بلد واحد»، وأننا مانزال نذكر بمزيد من العناء الجدل الواسع مع «التروتسكيين» و«المجالسيين» حول تعارض أو توافق الدولة والحرية، أو النظام و«قمقمة» من القمقم) الناس. وهذا هو الفهم السائد عن المجتمع المدني حتى وقت قريب، ويكشف كتاب محمد جمال باروت سورية) «المجتمع المدني مفهوماً وإشكالية» حلب 1995) عن أن مآل المجتمع المدني في الفكر الغربي هو الاشتراكية في بعدين أساسيين هما فعالية الطبقة الاجتماعية وفعالية الفكر الثوري المنظم كما فهمها لينين، فكانت الدولة مطابقة للجمهورية الديمقراطية، أو تتبدى في «مقومات الحرية السياسية التي تعنى حرية الشعب بتصريف شؤونه المشتركة، الشؤون العامة». وهكذا، عدّ لينين إيديولوجياً «من إيديولوجيي المجتمع المدني المساواتيين الذي يرون أن الديمقراطية هي أبجدية الحقوق البشرية»،(13) غير أن العقدين الأخيرين على وجه الخصوص بدّلا كثيراً من فعالية المثقف والفكر الثوري المنظم في ظل «تكنجة» المجتمع والمجتمع الإعلامي و«عولمة» المجتمع. لقد تراجع المثقف العضوي ليبرز المثقف التقني من إهابه، أو بعيداً عنه، في معمعان الحراك الاجتماعي الجديد، وسطوة القوى الجديدة: التقانة، الإعلام، الاقتصاد والمال، المعلوماتية، وتندرج جميعها في «سلطة المعرفة» المهيمنة. وفي المقابل، أثارت معها السلطان الآخر التقليدي الغافي جمراً تحت رماد: السطان الديني والاجتماعي..الخ، مما أورث مفهوم المجتمع المدني في التباسه وتعقيده الضاغط على النخب السياسية والثقافية العربية، وأدخله في نفق طويل مظلم: نقل المفهوم واجتلابه، إغفال الهوية والخصائص الثقافية والاجتماعية، وعي التاريخ الممكن، والأهم المثقف التقني.‏
ومع شيوع الأنماط الاستهلاكية في الحياة العربية المعاصرة مترافقة مع هبات النفط من جهة، ومع زيادة النهب الاستعماري للمنطقة العربية بأشكال جديدة من جهة ثانية، جرى الاهتمام بالمثقفين العرب لسيرورة هذه التوجهات، فظهرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة ممارسات وظيفية للمثقف العربي لم تكن معروفة من قبل بهذا الاتساع وبهذا العمق كمفهوم الوزارات التكنوقراطية أو مفهوم المستشارين أو مفهوم كتبة السلطان السياسي والاقتصادي، ولايخفى أن رجال الأعمال والاقتصاد والمال يوظفون عقولاً كبيرة ومثقفين بارزين في خدمتهم، مما أعاد إلى الأذهان قضايا في منتهى الخطورة على ساحة العمل السياسي والثقافي العربي مثل حدود الدولة، ومسائل إنتاج المجتمع أو بنائه، أو مسائل الأمة والطبقة والشعب في الممارسة السياسية والثقافية العربية، ومثل مسائل الإعلام وصلاته بالنظم الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والقانونية، وبعد ذلك مسائل المجتمع المدني.‏
وفي الجانب المقابل أثيرت أيضاً قضايا ذات خطورة تتعلق بخيانة المثقفين أو انتهازيتهم أو هامشيتهم، أو شيوع أنماط مماثلة للمثقفين الذين يستعدون السلطان السياسي أو الاجتماعي أو الديني على المثقفين أنفسهم. وهذه أنماط وأشكال للمثقفين تصارعت خلال هذه العقود الثلاثة الأخيرة، كما ذكرنا، مع أنماط أخرى للمثقفين مثل نمط المثقف الملتزم أو الثوري أو المثقف العضوي كما عرفته بعض الماركسيات الجديدة مثل غرامشي، وكنا أشرنا إلى جوانب من مساهمته الفكرية، وسواه ممن كثر تداولهم إبان تلك الفترة.‏
انطلقت مفاهيم المثقف التقني من قلب الصراعات بدوافع من السلطة غالباً ومن المثقفين أنفسهم أحياناً، وربما كانت أكبر حالة شهدتها الثقافة العربية في هذا الاتجاه حالة جمال عبدالناصر حين أطلق سجناءه من كبار مثقفي مصر وبعض العرب من سجونهم وهم ينتمون إلى تيارات معارضة أو متطرفة أو تخالفه الرأي، ليعتمد عليهم في سياساته الجديدة العام 1964 في إطار شعار «الميثاق»، وخاصة شعار تحالف قوى الشعب العامل، فصار عدد كبير من هؤلاء السجناء وزراء أو مستشارين أو مديرين عامين وغير ذلك، فور خروجهم من السجن.‏
ومن يتأمل خريطة المواقع القيادية التي تسنمها هؤلاء المثقفون السجناء يدرك تمام الإدراك أن عبد الناصر قد أوكل إليهم شؤون التنمية في مصر برمتها، ولعل من أبرز الظواهر الناتجة عن هذه المشاركة أن المثقفين شرعوا ينخرطون في سلطة لا تعبر عنهم تماماً، وأنهم شرعوا يخدمون سلطة قد تتعارض مع أفكارهم بشكل كامل، ويبقى هذا التحول من أكثر الأمثلة على ولادة المثقف التقني،سطوعاً. ثم شهدت هذه الفترة محاولات تكيف من المثقفين أنفسهم أو من السلطات العربية لإضفاء صفات واقعية على هذه المفاهيم المستجدة. وإذا كانت غالبية هذه الصفات محكومة بالذرائعية، فإن المثقفين العرب توصلوا إلى أن يصبغوا الالتزامات التقنية لمشاركتهم في السلطة بطوابع أخلاقية طهرانية، قومية أو عقائدية، فصدرت عنهم مصطلحات جديدة حول أدوارهم مثل «تجسير» العلاقات بين السلطة والثقافة، وملخصها «إن لم يكن بجسر ذهبي أو فضي، فليكن بجسر خشبي يقف فوقه سيد يقرر، ومثقف تابع يبرر»، ومن الواضح أن مثل هذه الدعوة الميكيافيلية غالباً ما تضع المثقف في موضع الخسة والدناءة.‏
لقد نوقشت قضية «التجسير» طويلاً منذ صاغها أطروحة واقعية في الحياة الثقافية العربية سعد الدين إبراهيم، ولم تنس الذاكرة بعد وقائع محاكمة صاحب مركز البحوث والدراسات الذي أسسه وحمل اسم عالم الاجتماع العربي «ابن خلدون»، ويشير الاتهام الموجه إليه المبطن بشبهة العمالة، إلى أن المثقف التقني جاوز خدمة سلطانه السياسي الوطني أو القومي إلى تأجير نفسه للأجنبي أو العدو. ولاشك في أن لكلّ مثقف الحقّ في طرح رأيه والدفاع عنه، على أن شبهة العمالة ليست موجهة للآراء والأفكار، بل إلى الأدوار السياسية الموظفة لغير خدمة الذات العربية أياً كان وضعها أو امتدادها‏
أو قضاياها.‏
لقد شرع كثيرون يرون في قضية «التجسير» حلاً لمأزق وعلاقة المثقف العربي بسلطته التي مارست بحقه أصنافاً من الموت أو العقاب أو النكران أو الإهمال أو التجاهل خلا حالات الولاء. إن مراجعة هادئة للندوات والمؤتمرات والملتقيات الفكرية العربية حول الثقافة والسلطة والمجتمع المدني في الوطن العربي، وهي متعددة منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين، على امتداد الأرض العربية تبين أنها تمحورت حول ذلك الخطاب في حالات قطرية جرى تفصيل القول فيها مرات ومرات. وقد برهنت التجارب على عدم جدوى «التجسير»، لأنه اقتراح ثقافي لا تستخدمه السلطة إلا حين الحاجة، أي أن مكانة المثقف العربي في مجتمعه ماتزال زائدة عن الحاجة خارج الحدود التي ترسمها السلطة، ولأن جوهر «التجسير» يكمن في النظر إلى المثقف طرفاً آخر في معادلة السلطة والشعب، وواقع الحال يفيد أن السلطة لا تعترف بهذا الطرف، ولا تراه ضرورياً، أو هي تستغني عنه، فثمة بديل منه في صفوفها متى شاءت، ولو لم يتحلَّ بمواصفات المثقف. وفي دراسة فريدة للمثقف العربي والسلطة كما تعكسه روايات التجربة الناصرية بيروت 1996)، لاحظ مؤلفها سماح إدريس لبنان) أن النموذج الأكثر ظهوراً وتأثيراً هم المثقفون الموالون ولاء مطلقاً، ثم الاعتذاريون «البارعون في تبرير أخطاء النظام أو تفسيرها أو تلطيفها منصبين أنفسهم في أحايين كثيرة في موقع محامي الشيطان»، ثم الموالون بتحفظ أو الموالون ولاء نقدياً، ثم على نحو أقل، المثقفون الرافضون ثم المثقفون الانتهازيون، ثم الهروبيون المتراجعون «ممن يؤثرون العزلة أو الانعزال بتشجيع، الدولة أو ضغوطها أساساً، أو بخيار المثقفين أنفسهم كما يتوهمون»، ثم المثقفون المستعدون، وهم الذين يواجهون عداء النظام لهم بسبب ماضيهم، وهكذا لا نجد نموذجاً سوياً لمثقف. إن التآمرية صفة ملازمة لمثقفين كثر لا يفرزون مكانة المثقف، بالقدر الذي يهشمون فيه فاعلية الثقافة عبر دهاليز الممارسة المتواطئة مع الذات ومع السلطة ودسائسها ومكرها وخسرانها المبين لقيم الثقافة الحقة ودور المثقف الحق في مجتمعه.‏
ومن المفاهيم الجديدة أيضاً مفهوم «المثقف الحكيم» الذي يتخذ لنفسه دور الحكمة دون الارتباط بالسلطة، وقد برهنت مثل هذه الدعوة في الواقع على سلبية تتمكن من المثقف كلما ابتعد عن السلطة ومن نتائجها الواضحة للعيان، العزل أو الانعزالية مرتعاً لأوهام المثقف المتفاقمة في أبراجه العالية أو المنخفضة.‏
غير أن من أكثر المفاهيم سيطرة الآن مفهوم الالتزام التقني المجرد، دون تزويق أو تزيين. فالمثقف وفق هذا المفهوم يمتلك جهداً ثقافياً هو اختراع واكتشاف وإبداع وخبرة وعطاء علمي وفكري ومعرفي، قابل للتشغيل أو الاستئجار أو الاستثمار بأجل أو دون أجل، فهو إذاً مستعد لأن يبيع جهده وظيفةً أو خبرة أو استشارةً، وبدرجات متفاوتة لمن يدفع أكثر ولمن يقدم شروطاً أفضل للالتزام به، وثمة اليوم مراكز ومعاهد سرية وغير سرية في ميادين النشاط الإنساني كافةً تعرض جهود المثقفين وأدوارهم للبيع أو التشغيل أو الاستئجار، لقد تخلى أمثال هؤلاء المثقفين عن الأوهام وسحر الإيديولوجيات وحركة الواقع وانغمروا في مصالحهم الذاتية الضيقة أو المحدودة، وأعتقد أن ما نشهده اليوم من أحداث خطيرة وقرارات غير متوقعة لقادة سياسيين آلت إلى اتفاقات مريعة، تؤثر في المصائر اليومية والعامة هي متأتية من أفعال هؤلاء المثقفين المستشارين الذين نشطوا إلى جانب بعض الزعماء والقادة العرب، وصارت لهم فعالية اجتراح معجزات، هي بتعبير أدق اختراق مدنس للتاريخ العربي. وحرف للنضال الاجتماعي عن مداراته السياسية.‏
6ـ تحولات الثقافة الجماهيرية:‏
ينتمي مصطلح الثقافة الجماهيرية إلى سلالة المصطلحات الملتبسة في مفردتيه: «الثقافة» و«الجماهير»، ناهيك عن تعقيد قضاياها، لاتصالها بممارسة اجتماعية وسياسية أوسع وأكثر تشابكاً، ولانغمارها بظروف نشوئها في العصر الحديث خلل ظهور مفاهيم المجتمع المدني مثل الحرية وحقوق الإنسان وحرية المرأة وسيادة الدولة والقانون وتنظيم حقوق المواطن وواجباته، واكتشاف علم النفس والاعتراف بأهمية دواخل الفرد، وتنامي النزعة الإنسانية والفعل الإرادي لدى الإنسان.. الخ.‏
على أن الثقافة الجماهيرية في الوطن العربي عانت، وما تزال، مشكلات «التاريخية»، إذ ارتبطت الثقافة الجماهيرية بظهور أجهزة الثقافة ووسائل الإعلام والمؤسسات التربوية والأهلية على أنها ديناميات لابدّ منها في إنتاج المجتمع الحديث، بل إن التنمية البشرية برمتها، تحتاج إلى رشاد الثقافة، ولا شك في أن تعثر التنمية الاقتصادية أو احتباس خطط التنمية المستقلة أو المستدامة أو الشاملة مرده إلى إهمال أو تجاهل البعد الثقافي أو إغفال التنمية الثقافية. وكانت دعوة الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في القمة الكونية الأخيرة 6-7-8/9/2000م) إلى إضفاء الطابع الثقافي على منظمة الأمم المتحدة ذروة الاعتراف بقيمة الثقافة ليس في بناء الإنسان، بل في بقاء الجنس البشري متمتعاً بقيم الأمن والسلام والحرية بأوسع معانيها.‏
وثمة معضلة أخرى هي النخبوية، فالثقافة الجماهيرية تحمل في تركيبها بذور تعارض مع مفهوم النخبة الذي يتطلب ثقافة نخبوية، ورأى دعاة الثقافة النخبوية أن نقل الثقافة إلى مستوى الجماهيرية إفقار للثقافة وانحدار بالمستوى الثقافي نفسه، وحذر دعاة الثقافة الجماهيرية بالمقابل من تبعات الجماهيرية، وأولها الاستهلاك، حين تغدو الثقافة استهلاكاً لا قيمة له، وثانيها التسطيح والتهميش، فتغيب الثقافة الحقة وتسيطر «ثقافة» مفبركة تفتقر إلى الاتساق والتجانس والعمق والأصالة، وثالثها التزييف والتغطية، إذ ينبه دعاة الثقافة الجماهيرية إلى هيمنة وسائل الإعلام، ولا سيما المتطورة منها، من إملاءات النخبة وثقافتها، ما دام مفهوم النخبة نفسه قد أصابه التطور، فليست النخبة في نهايات القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين هي البرجوازية والإقطاع، بل هم مالكو وسائل القوة الجديدة في الاقتصاد والمال والتكنولوجيا والمعلوماتية والاتصالات في المعمورة ممن «ينمّطون» الثقافة الجماهيرية وفق مصالحهم وأهوائهم.‏
ولعل البعد الشعبي مما يثير الشجن، إذ لا يقصد بالثقافة الجماهيرية الينابيع الشعبية للثقافة، مما يضيف معضلة أكبر إلى فاعليتها، وينجم عنها تجنب التراث الشعبي والتغافل عن مكونات الثقافة الشعبية الأصلية والراسخة في وجدان الجماهير، فلا تلقى بعد ذلك إلا الهوان، حين يتعالى المثقفون عن ثقافتهم الشعبية، ويعانون الأمرين في تركيب ثقافي جماهيري جديد، إذ ليس أمامهم في هذه الحال، سوى اللهاث وراء ثقافة المركز الوافدة. ولا ننسى في هذا المقام ما لقيته الثقافة الشعبية من عنت وازدراء لدى غالبية المثقفين، حتى إن أحد رواد هذه الثقافة، وهو عبد الحميد يونس، وضع كتاباً سماه «دفاع عن الفولكلور» 1972م).‏
لا يفيد معنى الجماهيرية المعنى نفسه للشعبية، غير أن شعبية الثقافة باستلهام الموروث الشعبي يسهم في سيرورة التقاليد الثقافية القومية في الثقافة الجماهيرية كالسردية العربية الثرة في «ألف ليلة وليلة» والمأثورات والحكايات والسير والسرد الإخباري، وسيرة النبي وسير الصحابة والتابعين والأبطال والفاتحين والعلماء والكتّاب وأعلام العرب في الميادين كافة، والمقاربات المتصلة بين الأدب الشفاهي والأدب المكتوب. وثمة مجالات استلهام أخرى في الأغاني والشعر والمسرحية وما يكون عناصر رؤية للعالم، هي مكونات الهوية القومية. وما تزال الينابيع الشعبية مصدراً فريداً في تعضيد الثقافة الجماهيرية.‏
أما البعد الإنساني فيعوّل عليه كثيراً في تحولات الثقافة الجماهيرية، لأن الثقافة الجماهيرية جهد ثقافي منظم من أجل الارتقاء بالتنمية الثقافية إلى التطلعات الإنسانية المشتركة، وقوامها التلاقي الثقافي وحوار الثقافات والحضارات بروح الاحترام المتبادل والتقدير الثمين، بينما تقوم ثقافة النخبة على التكبر والاستعلاء وعدم الاعتراف بالمساواة بين البشر مهما كان انتماؤهم أو جنسيتهم أو لونهم أو دينهم أو معتقدهم أو طبقتهم.‏
إن الثقافة الجماهيرية تنبذ مفهوم الاستهلاك الثقافي لصالح ثقافة موجهة ملبية لحاجات بناء الفرد، أي تقريب الثقافة الرفيعة من مستوى الجماهير، لا بثّ منتجات ثقافية فقيرة ومفقرة للوجدان. وينبغي التفريق على الدوام بين الثقافة الجماهيرية والثقافة لجمهور محدد، وتكمن الوظيفية في سداد توجيه الخطاب الثقافي لعامة الناس أو للجماهير كافة، واجتلاء السبل والوسائل الكفيلة بهذا التقريب.‏
ولعل نظرة في تطور الموقف السوفييتي من الثقافة الجماهيرية يكشف عن فوارق أخرى، فقد دعوا إلى ثقافة جماهيرية وشعبية واشتراكية، وأسسوا في سنوات الثورة الأولى جماعات الثقافة الجماهيرية المسماة «البرولتكولت» التي سعت لوضع الثقافة في متناول التلقي الجماهيري، ثم ما لبثت هذه الجماعات أن أحبطت لإدخالها في موضوعات الجدل الذي لا طائل وراءه: أولوية المضمون على الشكل والنمذجة وترقية الذوق الأدبي والفني أم تبسيط الفن والأدب؟ ما حدود الوطني والإنساني في الثقافة؟ استمداد الموروث الشعبي أم تغليب التحديث؟ ما التقدمية في الأدب والفن؟. ما حدود التوجيه والتدخل في حركة الأدب والفن؟.. الخ.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منير
مؤسس
محمد منير


عدد المساهمات : 1898
تاريخ التسجيل : 23/01/2008
العمر : 59

الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف Empty
مُساهمةموضوع: رد: الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف   الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف Empty30/4/2008, 01:07

إن جماعات الثقافة الجماهيرية «فبركة» لمصطلح بروليتارية الثقافة، ولكن كم هي البروليتاريا مفهوم غامض، وكيف صار في ممارسته في «الثورة الثقافية» في الصين في منتصف الستينيات إلى دمار شامل للثقافة وللجماهير.‏
وقد كان لويس اراغون وضع كتابا ًمبكراً عن ذلك كله سماه «الثقافة والجماهير» 1947م)، وأعطى مفهوماً خاصاً للوظيفية بالعمل المنظم لتقريب الثقافة الحقة الرفيعة الإنسانية للجماهير كافة، ورفض أن يحمل ثقافة إلى الجماهير، ورفض أيضاً ثقافة خاصة بالطبقة العاملة أو البروليتاريا، فالثقافة واحدة غير قابلة للقسمة. واهتدى اراغون، مثل كثير من مشايعي تفكيره، مواجهة للانفصال الشهير بين الفن والشعب أو الفن والجماهير، إلى مواقف جوهرية ثلاثة لتسويغ الوظيفية في الثقافة الجماهيرية: لقاء مع الأعمال المعاصرة في موضعها، ومساعٍ للانفتاح على كنوز الماضي المحفوظة في المتاحف جميعها، وسعي لابتكار شكل جديد للتعبير بوساطة الواقعية الاشتراكية(14) .‏
غير أن هذه الحلول الوظيفية المدغمة بالتبشير العقائدي تراجعت في ربع القرن الأخير ليبرز من جديد طابع الوظيفية بوصفه تركيباً جديداً لثقافة جديدة هي الثقافة الجماهيرية، مختلفة عن ثقافة النخبة، وعن ثقافة العقيدة أو الأيديولوجيا.‏
ثم طرح مفهوم الثقافة العامة Public Culture معادلاً لمفهوم الثقافة الجماهيرية في الثقافة الأنجلو سكسونية، وجرى تداول الآراء القائلة بالآثار النافعة لاعتماد الأدب على «الشعب»، كما يروي لورنس رايني Lawrence Rainey في كتابه «مؤسسات الحداثة: النخب الأدبية والثقافة العامة: Institutions of modernism Literary Elites and Public Culture»، فلم يطل الوقت حتى برز المفهومان المتناظران: «أدب رفيع» و«أدب وضيع» في مسار ثقافة الحداثة.‏
وبينت تطورات الصراع بين المفهومين أن بعض رموز الحداثة رأوا في الثقافة الشعبية وضاعة تجافي طبيعة الأدب الرفيع، وأعلن عدد لا يستهان به من هؤلاء الرموز أمثال جيمس جويس، صراحة أو إيماء، احتقارهم للثقافة الشعبية أو الجماهيرية، لأنها تنطوي على عناصر مناهضة لاستقلال الفن والأدب الذاتي. ويتابع رايني وصف الثقافة العامة، ويراها نظيراً مبسطاً لمفهوم الفيلسوف الألماني يورغن ها برماس عن «المضمار العام»، أي تلك المساحة الاجتماعية والخطابية التي شهدت خلال أواخر القرن السابع عشر وامتداد القرن الثامن عشر احتلال معايير المحاججة العقلية للمكانة التي كانت تشغلها التقاليد الثابتة، والمضمار العام عند هابرماس هو مجموعة محددة تاريخياً من المواقع والمؤسسات الأندية، المقاهي، الصحف، شبكات العلاقات الاجتماعية)، وما يقترن بها من ممارسة للحياة السياسية والمدنية والثقافية والجمالية. ومع اتساع نطاق هذا المضمار العام، وخضوعه بعد ذلك لعلاقات القوة والامتياز والاحتكار، اختارت الحداثة الارتداد إلى شبكة «الرعاة» الماليين الذين هجاهم ديكنز، وأنشأت لنفسها عالماً نخبوياً نظيراً لعالم المضمار العام أو الثقافة العامة، سرعان ما تحول إلى «مؤسسة»، وسرعان ما استدعت هذه قوانين الاقتصاد والمال(15) .‏
لقد ارتبطت الثقافة الجماهيرية بمبدأ أساس من مبادئ المجتمع المدني هو الحق بالثقافة، استتباعاً لحق الحرية والرأي والتعبير، ثم شرّع الحق بالثقافة الأبواب الواسعة بعمليات الانتشار الثقافي بوساطة المنظمات الدولية والإقليمية من جهة، والمنظمات الأهلية والشعبية والمؤسسات الرسمية والأجهزة الثقافية ووسائل الاتصال بالجماهير الوطنية والقومية من جهة أخرى.‏
لقد صار الحقّ بالثقافة إلى مكتسب جماهيري وإلى منطلق حي للتنمية الثقافية، ولا يماري أحد اليوم في أن الانتشار يسر آفاق الثقافة الجماهيرية، وياسر إلى إنجازاتها المشهودة، وتشهد تجربة الثقافة الجماهيرية في مصر إلى أهمية الانتشار التي بدأت عريضة وعميقة منذ مطلع الستينيات، على الرغم من تعثرها في بعض الفترات، ومن ينسى تعدد المسارح وتنوعها، والعناية بالفنون الجديدة كالرقص والموسيقى والسينما والتلفزة والإذاعة، أو انبعاث التراث العربي بأشكال مختلفة، أو وفرة سلاسل المطبوعات والدوريات الثقافية، أو صيانة الآثار والمتاحف والأوابد السامقة، أو نشر المراكز الثقافية وقصور الثقافة في أنحاء البلاد.‏
والسؤال الآن: أين الثقافة الجماهيرية، بوصفها حقاً بالثقافة، وتفعيلاً للثقافة في تحقق قيم المجتمع المدني في زمن العولمة؟ وهل تنفع الإجراءات والتدابير القطرية أو القومية في حال الوطن العربي)، أو الإقليمية والدولية عمل المؤسسات غير القطرية أو القومية)، أو ما تقوم به المؤسسات الأهلية التي يعول عليها دعاة المجتمع المدني، في توفير الثقافة الجماهيرية؟ وهل ثمة آفاق لمجاوزة انكفاء الثقافة الجماهيرية ومداهمة العولمة لها؟ وهل بمقدورنا أن نأمل حقاً في التكامل بين أجهزة الثقافة ووسائل الإعلام، أو التكامل بين الثقافة والتربية، أو تنمية الصناعات الثقافية العربية، أو مواجهة قلق الهوية؟‏
إن واقع الحال يشير إلى تأزم ذاتي شامل، بل إن «المثقف الداعية» يمعن في «شرذمة» المجتمع وانقسامه، ومثله «المثقف التقني».‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منير
مؤسس
محمد منير


عدد المساهمات : 1898
تاريخ التسجيل : 23/01/2008
العمر : 59

الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف Empty
مُساهمةموضوع: رد: الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف   الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف Empty30/4/2008, 01:08



7ـ خاتمة:‏
تفيد معالجتنا أن خطاباً قومياً فاعلاً أو تفعيلاً للمجتمع المدني، وهما متلازمان، يتطلبان وعياً بالهوية ووعيداً بالتاريخ، وتنقية لمفاهيم المجتمع المدني داخل التجربة التاريخية العربية، والأهم وعي تحديات العولمة على المصائر القومية المأساوية التي زادتها دعوات مثقفي المجتمع المدني التقنيين «شرذمة» وفاجعية.‏
الهوامش والإحالات:‏
(1) مركز دراسات الوحدة العربية: «المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية»، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992، ص37.‏
ويلاحظ أن ثمة فروقات كبيرة في التعريف بين مثقف وآخر، فقد أورد محمد جمال باروت في كتابه «المجتمع المدني مفهوماً وإشكالية» دار الصداقة ـ حلب 1995) مفهوماً عاماً مختلفاً عن تعريف المؤتمرين في ندوة مركز دراسات الوحدة العربية:‏
«فالآن بات بإمكاننا أن نفهم المجتمع المدني حقوقياً على أنه المجتمع الذي يقوم على التعددية السياسية والديمقراطية وصيانة الحقوق الأساسية للإنسان، والفصل بين السلطات، وحرية تداول السلطة، والمساواة، والعدالة، وسيادة الشعب والكرامة الوطنية» ص64).‏
وأورد سعد الدين إبراهيم تعريفاً مختلفاً أيضاً في مقالة حديثة، وهو الذي عرف، حسب اعترافه، بترويجه، في المقالة نفسها، لمفهوم «المجتمع المدني» عبر مركزه الذي يحمل اسم «ابن خلدون» بالقاهرة، «فأصبح تعريف مصطلح المجتمع المدني ـ عنده ـ يتمحور حول فضاء للحرية يلتقي الناس فيه بإرادتهم الحرة، ويأخذون المبادرات من أجل أهداف أو مصالح أو تعبيراً عن مشاعر مشتركة» جريدة «الحياة» ـ لندن ـ 31/3/2001 ص10).‏
ومن الواضح أن هذا التعريف تصوري افتراضي، فهل الحرية متاحة وأخذ المبادرات متاح بمعزل عن الدولة أو....الخ. والطريف أن صاحب هذا التعريف يتهم المثقفين بالتخريب، ما لم يقبلوا بهذا التعريف.‏
وكان عزمي بشارة فلسطين) وصف محاولات تعريف المجتمع المدني عربياً بالغموض، لأننا نحتاج إلى مفهوم المجتمع السياسي الديمقراطي، كما في كتابه: «المجتمع المدني: دراسة نقدية مع إشارة للمجتمع المدني العربي» مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت ـ ط2 ـ تشرين الأول2000 ص10).‏
أما إبراهيم البيومي غانم فيرى، في أحدث دراسة عن المجتمع المدني، أن المعول في مفهومه هو الاستقلال عن الدولة «نحو تفعيل دور نظام الوقف في توثيق علاقة المجتمع بالدولة» في مجلة «المستقبل العربي» ـ بيروت ـ العدد 226 ـ 4/2001 ص39).‏
(2) نعى عزمي بشارة في كتابه السالف الذكر الدعوة إلى المجتمع المدني ومحاولات الترويج له بقوله: «ولكن عن أي مجتمع مدني نتحدث؟ ولماذا؟» المصدر نفسه ص26).‏
(3) يشير إبراهيم البيومي غانم في دراسته المذكورة إلى التوازي التاريخي بين موجة الاهتمام بنظام الوقف وموجة الاهتمام بالعمل الأهلي أو بالانقطاع اللاربحي أو الثالث، بما يحتويه من مؤسسات وأنشطة وفعاليات تدخل ضمن مفهوم أكثر رواجاً هو مفهوم «المجتمع المدني»، بل إنه يرى أصالة وسيرورة اجتماعية في نظام الوقف لا تتوفر لمؤسسات المجتمع المدني الحديث نفسه‏
ص39).‏
(4) يوضح صالح بشير أن خطاب المجتمع المدني في علاقته بالدولة الوطنية أو الأمة يتأسس على التباس، لما يثيره من إشكالية العولمة ـ الإسلام السياسي ـ الهوية، لأن الأخيرة تواجه اعتراض العولمة والأصوليات في آن واحد. «العولمة والإسلام السياسي المتطرف حيال الأمة ـ الدول» ـ «الحياة» ـ لندن ـ 17/3/2001 ـ ص10).‏
(5) يقول عزمي بشارة بصريح العبارة إن المجتمع المدني لعب خارج أوربا دوراً مشبوهاً. وأورد في الهامش بعض الكتابات التي تنحو هذا المنحى مثل كتاب دلال البزري: «غرامشي في الديوانية: في محل «المجتمع المدني» من الإعراب» دار الجديد ـ بيروت 1994). المصدر نفسه‏
ص10).‏
(6) الصبيحي، أحمد شكر: «مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي» ـ منشورات مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت 2000 ص ص82-83.‏
(7) البيطار، نديم: «حدود الهوية القومية: نقد عام» ـ دار الوحدة ـ بيروت 1982 ـ ص ص308-310.‏
(Cool بايار، جان فرانسوا ترجمة حليم طوسون): «أوهام الهوية» دار العالم الثالث ـ القاهرة 1998 ـ ص8.‏
(9) «الحياة» لندن)، العدد 13384 30/10/1999)، ص9.‏
(10) أنظراً مثالاً لهؤلاء المنتمين:‏
ـ هلال، د.علي الدين: «الفكر العربي ومخاوف من العولمة»، في جريدة «البيان»، دبي) 7053 10/10/1999)، ص13.‏
(11) الشيخ، عبدالقادر بن ورفاقه): «التلفزيون ـ الثقافة ـ الهوية: البرامج الثقافية والتربوية والتسجيلية مثالاً» ـ اتحاد إذاعات الدول العربية ـ سلسلة بحوث ودراسات إذاعية 43 ـ تونس 1999 ـ ص ص17-18 وص96.‏
(12) المديني، توفيق: «المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي» ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ ص114 وص123.‏
(13) «المجتمع المدني مفهوماً وإشكالية» ـ مصدر سابق ـ ص60 وص63.‏
(14) شاربنترو، جاك ورفيقه رينه كايس): «الثقافة الشعبية في فرنسا» ترجمة بهيج شعبان)، منشورات عويدات، بيروت، 1969، ص ص156-161.‏
(15) انظر عرض صبحي حديدي لهذا الكتاب الهام في مجلة «الكرمل» رام الله)، العدد64، صيف2000، ص266.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الحرية والمجتمع المدني والعولـمة ـــ د.عبدالله أبوهيف
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» المجتمع المدني: بعض أسباب الضعف الذي يعتوره
» الحرية
» عريس البحر و الحرية
» أغاني فنان الثورة عبدالله حداد
» الحرية في المجتمع: الواجبات والحدود

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مدارات :: مدارات فكرية :: مدار الفكر السياسي-
انتقل الى: