عدد المساهمات : 30 تاريخ التسجيل : 11/02/2008 العمر : 45
موضوع: سالمة .. والأديب !! 18/4/2008, 21:18
سالمة .. والأديب
بداية الحلم
في قرية نائية معزولة لم تطأها أقدام غير مألوفة منذ أمد إلا ما ندر... ولدت سالمة وشبت بين الجبل والوادي وترعرعت في كنف عائلة ريفية لم تتعرض إلى نفحات المدنية إلا نادرا. ما عدا الوقت الذي تقضيه في رحاب مدرستها البعيدة عشرة أميال عن مسكنها فإن مجمل وقتها استنزفته تلك الربوة المنتصبة في ذيل الجبل ،التي يبدو أن عامل الزمن حقق لها إستقلالها الذاتي لكن القرون فشلت في دفعها بعيدا عن باحة جبلها ربما لأنها من جنسه وربما لأن العرق دساس أو ربما هو وفاء ربوة بدوية أصيلة. تحت شجر اللوز والمشمش وبين عناق النحل للزهر والنوار أتت سالمة على كل القصص التي استعارتها من مدرستها ثم لاحقا من معلمها ، بعد ان تجاوزت القصص الناعمة ..سندرلا والأميرة النائمة وعلي بابا ...حطت في رحاب القصص الفاعلة ..قطع ثقيلة من جسم الأدب مثل ماجدولين أهل الكهف والحرافيش وتجولت بين إبداعات أدباء المهجر وروائع الشابي، تنبه ذهنها باكرا إلى ساقية الإبداع فاستوقفت الكلمات والجمل والنصوص واستنطقتها ثم هضمت القيمة الإبداعية الكامنة فيها وسرحت الحبر والورق ، إضافة إلى الريف الذي يشكل تربة الأدب الخصبة فالطبيعة الساحرة كانت على الدوام فراشه الوثير، من هذا الفضاء المرصع بالمشاعر ومن سواقي النثر الصافي تشكلت ملكات الأدب عند سالمة وبحكم طهارة المناخ والسريرة عمدت إلى كل ما قرأت من قصص ومقطوعات نثرية وشعرية فخلصتها من كمية الشر الكامن فيها ودستها في قلبها الصغير وذاكرتها الوقادة طوباوية طاهرة أنقى من جداول الجبل وألين من العشب المتزاحم على ربوة أحلامها.
الأمل
مرت أيام سالمة هادئة هنية كما مرت فترة دراستها الثانوية بامتياز وتفوق ومضت في تغذية قريحتها بكل صنوف الأدب حتى وصل هذا التأثر منتهاه بكتابات أديب مشهور تمكنت كتاباته من التسلل إلى فناء روحها بقوة وحققت لإحساسها القفزة النوعية التي أفعمت ذاتها وحلقت بها في عالم المثالية . كان هذا الأديب قد جسد بكتاباته مفهوم الطهر الأدبي وحقق للقصة بعدها الأخلاقي من خلال كتبه أو أعمدة الصحف التي يتكرم عليها من حين لآخر بشيء من نثره الرائع. إنتقلت سالمة من مرحلة ملاحقة أدب الأديب إلى ملاحقة الأديب ووضعت هدفا ساميا أمامها أن تلتقيه وتنهل منه مباشرة فإذا كان هذا إبداعه فكيف يكون المبدع... انطلقت في محاولات متتابعة للحصول على عنوان مقر سكناه ومكتبه خلال هذه المحاولات حدث لها أول شرخ حين علمت أنه غير متزوج وبالتالي ليس له أسرة ، سرعان ما رممت الشرخ حين أقنعت نفسها أن سنن الزواج وفطرة التناسل موكولة إلى العوام ..جحافل الناس أما خاصة خاصتهم فقد وقفوا أنفسهم للإبداع ثم عقدت العزم على إخباره بان العباقرة وإن ضحوا بالبنين فكل الأدباء الناشئين أبناؤهم وإنه يشرفها أن تكون له إبنة تستقي من نبعه الصافي . بعد ختمها للمرحلة الثانوية وعند إعدادها لوثائق ومتطلبات الجامعة نزلت ضيفة على قريبهم وابن قريتهم الذي استوطن المدينة كان داعية الى الله كثير التسبيح والذكر لا يتعب من تقديم النصح لأهل القرية، مازالت تذكره وهو شاب يافع كيف يتحدث عن الصلاة بحرقة ويحرم التدخين ويحث على رضاء الوالدين ويلقن الصغار حزمة هائلة من الأدعية وأشد ما أعجبها دعاء السفر الذي بقى محفور في ذاكرتها إلى اليوم فهي تردده باستمرارا لكنه تغير بعد هذه المدة الطويلة وبعد العشرة سنوات التي قضاها في السجن من أجل دعوته ودينه حاولت الإقبال عليه طلبا للنصيحة في ما عزمت عليه واستئناسا بثروته الأخلاقية وتاريخه الدعوي المجيد لكنه كان متثاقلا، رماد لا حرارة فيه ولم تسمع شيئا من فمه الذي كان سابقا لا يفتر من الذكر والنصيحة إلا كلمة في آخر السهرة بعد إنتهاء المسلسل الثاني قالها خافتة كأنه واجب ممل يلقيه من على عاتقه " صليتوا لولاد" لم تسمع بعدها إلا تمتمة... هي الأقرب إليهم ولم تفهم ما قالوا ! لكنه سكت ولم يعقب المهم قال هو شيء ما وتمتموا هم بشيء مبهم... سألته عن مكتبته فدلها على طاولة في زاوية الغرفة فوقها كتيبات صغيرة الحجم يبدو وكأنهم هدية إستصحبتهم أمه عند عودتها من الحجاز وكتاب للجابري وآخر لمحمد أركون وكبيرها تفسير الأحلام لإبن سيرين...
وكان اللقاء...
تمكنت بعد محاولات كبيرة من الوصول إلى مبتغاها فهاهوالأديب يغادر المسرح البلدي لتراه لأول مرة بعد أن ترصدته ما يناهز الساعة ، تقدمت منه بخجل وارتباك كبير وغصت بالكلمات وخانتها الفصاحة التي ادخرتها لمثل هذا اليوم غير أنه وببساطة ودون تكلف وفي دقائق معدودة فعّل فيها بعض خبرته امتصت كل شيء فانطلقت تتحدث ثم تتحدث كأنها تعب الكلمات بلهفة لتروي عطش السنين، احتواها في لمحة وفككها ثم خاطبها "يبدو عليك نقاء البادية وقوة الريف" فأجابت باستحياء "نعم سيدي أنا من البادية لكن عفوا أين تجلت قوة الريف" لاطفها بتأني الكبار" تجلت من خلال سواد عينيك وهذا الشعر المتفحم الغزير كأنه فرس شارد" شرخ جديد إبتلعته أيضا وتعسفت عليه لتأوله في الإتجاه الحسن..." أكيد لغة الأدب العملاق تختلف عن عبارات الأدب الناشئ ومدلولات هذا غير ذاك. بعد نزهة قصيرة لم يتكرم فيها الأديب بشيء من أدبه ولا هي ألحت رغم تلويحها ..قناعة منها أنه لقاء أولي عابر وتأتي بالخير الخوالف. قبل أن يستأذن أخبرها أن الليلة تبيت عنده أديبة رومانية وفي الغد سيسافر إلى بوخارست لحضور ندوة يعود بعد خمسة أيام لهذا سيلتقيها في بيته الأسبوع المقبل لوحدها في لقاء طويل ومركز ثم إنصرف لتنصرف هي بدورها متعبة تجر حصاد السنين الذي يوشك أن يتفلت منها تستطعم مكونات الأدب مرا في فمها تكاد تتقيؤه ما إن وصلت إلى بيت قريبهم حتى ولجت غرفة باردة وألقت بنفسها فوق سرير موحش وشرعت في ترميم هذا الشرخ الكبير . أما كيف تبيت عنده الأديبة الرومانية فالأكيد أنه سيسامرها ومعهم ناشئة الأدب مثلها الذين يتقاطرون عليه طلبا للإبداع ثم في آخر الليل تأوي الأديبة إلى غرفة علوية معزولة ويأوي الأديب مع طلابه في الأسفل ، وأما لقاؤه معها في بيته فهي تثق فيه أكثر من ثقتها في نفسها والإبداع والفكر ومهام الأدب الجسام تقتل كثيرا من السفاسف التي تتقافز في ذهنها البسيط ، روضت أفكارها وطوعتها ووجهت تصرفاته وسلوكه ونظراته ومطالبه الوجهة الحسنة ثم هدأ قلبها الطاهر ونامت على قرار لقائه.
موعد مع المجهول
مر عليها الأسبوع بطيئا لكنها استغلته في مراجعة بعض كتبه ولا تدري لما اشترت كراس فاخرة وبعض الأقلام الثمينة اقتطعت ثمنهم من مصروفها القليل . دبت صبيحة يوم الموعد يحدوها الأمل ويربكها اللقاء فقد عاد الأديب شامخا في ذهنها بعد سلسلة من الترميم لشخصيته أعقبها الإطلاع على آخر إنتاجه مما رفع اعتباره عاليا. طرقت الباب ففتح وسلم ثم قفل راجعا إلى قاعة الجلوس متحدثا لها دون إلتفات ...طبعا الأدباء لا يحفلون بتقاليد الإستقبال ولا بتفاصيل الأشياء، جلس وبقيت تترقب الإذن تتجول بنظرها في هذه الغرفة الفارهة وما تحتويه من أشياء فاخرة أغلبها عتيق باهض الثمن ..إنتبهت على سؤاله " ما هذا الخصام البادي بين فستانك وجسمك ..لقد إبتلعك هذا الفستان وغبت فيه تماما ألا تقارب بينهما ؟ ليتعانقا بعد خصام ألم تعلم أن الصلح خير ياصبية " لم ترد إنما قبلتها على مضض لا لشيء إلا لأنه الأستاذ .تغلبت على إرتباكها وبادرته "تعرف يا أستاذ عندما أقرأ كتاباتك أحس بعاطفة الأبوة تغمرني وكأني أسبح في نهر من النقاء " وقبل أن تستطرد قال " تلك عواطف لا مكان لها خارج الأوراق تنتهي عندما يطبق عليها الكتاب أما الأحاسيس الحية هي التي تمكننا من إطلاق رغباتنا المكبلة و الإستمتاع بالحياة إلى أقصى مدى " ثم من خلال ذهولها وبحركة تنم عن خبرة فائقة فتح قارورة الخمروجذبها من ذراعها لتقترب فأسعفها صوت الآذان لتبادره "الآذان يا أستاذ " فرد ضاحكا هذا صوت إبراهيم العطار بعد أن أفلس محله فهو يتعهدنا بصوته النشاز من حين لآخر"إستنهضت ثمالة رشدها الباقية وقالت "هذا نداء الله" قال في إشارة إلى رأسه إلهي هنا والسماء حبري والأرض الورق " ثم جذبها أو جذب ما تبقى منها... كان الثلج في الخارج يغطي محيط المنزل... وكانت ساعة الحائط تدق بشكل معهود كأنها متواطئة مع الحدث بينما كان شيخ في السبعين يقضم تفاحة ويقبل عليها بنهم غريب كان طفل في الخارج يمسح مخلفات الثلج على البلور ويضحك في حياء وخجل.
وسقط الحلم...
أصبح الثلج أسود والمدينة تحولت لأشباح واستوى البشر والحجر والدواب والشجر وتحللت الألوان وانتهى فصل مرير تهشم فيه الحلم داخل الجسد وغادر المحصول الأدبي الرأس المثقلة ليسيح على البدن في شكل كلمات وأحرف صلاحيتها منتهية لتنهك ما بقى من سالمة التي تجر بعضها صوب قريتها بعد ان استجمعت شيئا من أفكارها قررت أن تتجه رأسا إلى بيت خليل جارهم في القرية ومعلمها في الإبتدائي والرجل الذي طالما تودد وتقرب للزواج منها غير أن أحلامها الكبيرة ضاقت برغبته... وقد عزمت على أن تحدثه بكل شيء وبالتفصيل الممل فإن قبلها بهمومها فهو ميلاد جديد تتبعه حياة فأولاد فسعادة وإن رفض فستقوم بزيارة أخيرة لبئر القرية المهجور وصلت ...تحدثت..إستمع إليها ...وأنتهى الأمر في عشرة دقائق ظل بعدها خليل منكسا رأسه ومالت هي باتجاه البئر...
بعد الغروب
خلال مسيرها نحو املها ومآلها راجع خليل شريط الذكريات هذه سالمة النقية الخجولة التي لم يتفلت من سمعتها ما يشين حتى عندما صدته استعملت أقصى عبارات الأدب واعتذرت بإحراج كبير أتبعته بسلسلة من التأسف حتى لا تجرح شعوره وتذكر مغامراته المشبوهة مع كثير من زميلاته... تجاذب بداخله التردد والإقدام حسمه أخيرا بقرار إنعكس على محياه فبدا وجهه مرفأ لسعادة الدنيا بأسرها وانقلب إلى والدته التي أعياها بالرفض وأعيته بمشاريع الزواج وحين أخبرها لم تتمالك نفسها فاندفعت مع ابنتها حافية خارج البيت كأنها تخشى أن يتراجع هذا المعاند وحثت السير إلى أهل سالمة لما كانت الأم صحبة ابنتها تجتاز الفجوة بين الجبل والربوة حينها أنهت سالمة زيارتها الأخيرة لربوتها وانحدرت من الجهة المعاكسة للحفاة، أمتار فصلت بين سالمة والخطابة ...وعندما وضعت الأم قدمها اليسرى على عتبة بيت العروس كانت سالمة تدفع بقدمها اليمنى إلى بهو البئر هوت الأحلام والآمال أولا ثم هوى الجسد المكلوم إلى مقره الأخير. في لحظة زمن متباينة غريبة يتابع فيها القريب ندوة صحفية حول قانون الأحزاب فبحكم خبر ته في الدعوة وسنين السجن منّ الله عليه فارتقى من صنف داعية إلى مفكر يتصدى للجسام مثل صراع الحضارات والإستشراق ومفهوم التجديد والمقاربات... ويفحص فيها الشيخ الذئب بريده الإلكتروني باحث عن صيد جديد محملقا في الشاشة مرة ينزع نظاراته ومرة يضعها قاتل الله الخط الكوفي أهذه منيرة أم منير نقطة تلك أم تاء تأنيث ؟؟؟ والمعلم في القرية يحلق ذقنه ويتحسس بقايا الشعر على مستوى الحنجرة وينادي أخته الصغرى "دبوزة لقوارص وين يا طفلة" بالتوازي مع هذا وذاك سالمة هناك في البئر تصارع الموت جرح غائر في الجمجمة وكسر في العنق والقفص الصدري تهشم تماما..بعد الغروب كان الصمت يخيم على البئروكفت سالمة عن تحريك اقدامها ويديها ،لقد سكتت إلى الأبد.
الشركاء!!!
ماضي الشيخ الأديب التقدمي يغلف السم الزعاف بشيء من العسل المغشوش ليس إلا ليمون وسكر يشحذ الذئب نابا صدئا باق في فمه الأبخر يبقر به للقتل وعاجز هو حتى عن أكل فريسته المعلم الذي تاب إلى الله فجأة وأصبح طاهرا نقيا في سنة وشهر ويوم و دقيقة التي روت له فيها سالمة مأساتها ماض في هرولته حول القرية أغلب الظن أنه إختلال عقلي أما قريبها المفكرالجديد الداعية سابقا فهو أحسنهم حال أقله أنه ماض في أداء واجبه فبعد الختمة والبردة سالمة ممددة بين النسوة في الغرفة الأخرى وأبوها التائه المسكين حائر يدفع "المسلان" من فوق قصعة الكسكسي باتجاه الداعية القديم وهو لها تفتحت شاهيته منذ أصبح مفكرا وتخلى عن صيام الإثنين والخميس وأيام التشريق ..مفكرنا الذي تجاوز نصف القصعة وأتى على "المسلان" كله يبرم عينيه ويعب كأس الكولا ويقول رغم أنني أقاطعها وشربتها مجاملة إلا أنها مفيدة عقب هذا الطعام الدسم...يد يزيح بها الكأس من فمه والأخرى يتحسس بها بطنه المنتفخ ..يطلق تجشؤا له دوي وبصوت تغلبه حشرجة إييييييه الله يرحمك يا سالمة.