المجتمع المدني: بعض أسباب الضعف الذي يعتوره
د. تيسير الناشف*
تتكون قيم المجتمع المدني من فردية الشخص الإنسان، والمواطنة وحقوق المواطنة، وحقه في ممارسة معتقداته، واحترام خصوصية الإنسان، وحقه في فكره وفي حق المواطن في الدفاع عن أسرته وممتلكاته وفي اللجوء إلى الهيئة القضائية النزيهة وفي إتاحة فرص العمالة للمواطنين وغيرها. ويتكون المجتمع المدني من مؤسسات مختلفة من قبيل الرابطات السياسية والفكرية والثقافية والعلمية والتاريخية والأدبية والرياضية والجمعيات الخيرية والتطوعية ومختلف أنواع النقابات والجماعات الإنتاجية والصناعية، ومنظمات حقوق الفرد والإنسان والمواطن. في هذه المنظمات تتجسد الهوية الثقافية والهويتان القومية والإنسانية، وبها تتعزز هذه الهويات.
وبين الدولة – التي تتكون من مجموعة من السكان على رقعة جغرافية محددة تحكمها هيئة ذات سلطة مركزية – ومؤسسات المجتمع المدني، إذا وجدت مثل هذه المؤسسات، تقوم فجوة واسعة أو ضيقة في كل الدول، وعلى وجه الخصوص البلدان النامية.
ومما تبعث على نشوء المجتمع المدني وتعزيزه هي ممارسة الديمقراطية السياسية والاجتماعية وإضفاء الطابع الديمقراطي على مؤسسات الدولة والمجتمع، وتوسيع نطاق هذه الممارسة وتفعيل حقوق الإنسان واحترام الحريات العامة. وتشمل ممارسة الديمقراطية ممارسة الأخذ والعطاء الفكريين، وممارسة الحوار في بلورة الأفكار والمواقف. وللمساعدة في نشوء المجتمع المدني من اللازم ان تبلور وتقبل مجموعة من الافكار والقيم التي تشكل اطار سلوك مؤسسات الدولة والمجتمع وتنظم الحياة السياسية وتحول دون نشوب الصراعات بين مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع. وتفتقر مجتمعات كثيرة في العالم النامي إلى هذه الممارسة، وفي بعض البلدان الغربية لا تمارس هذه الممارسات إلا عند حد معين يتعرض من يتجاوز ذلك الحد إلى المعاقبة.
إن ظروف القمع والقهر السياسيين والاجتماعيين والفقر وانعدام الطبقة الوسطى أو ضعفها وغلبة النظام الأبوي (البطرياركي)، وسيطرة العشائرية وذيوع الولاء القبلي والاقطاعي والطائفي في بعض أنحاء الوطن العربي، وتعرض الشعوب العربية لموجات من الغزوات العسكرية الأجنبية من أوروبا والشرق وخضوع العرب مدة أربعة قرون لحكم الدولة العثمانية – - كل هذه العوامل أعاقت ولا تزال تعيق نشوء المجتمع المدني القوي في البلدان العربية. لقد شهد تاريخ العرب تطبيق نظم حكم غريبة عنهم مثل نظام حكم المغول ونظام حكم السلاجقة ونظام حكم المماليك. وغربة هذه النظم عن العرب كانت عاملا هاما في إزالة أو إضعاف الظروف المؤدية إلى نشوء المجتمع المدني أو تعزيزه.
وتعاني شعوب العالم النامي من مشكلات اجتماعية وسياسية ونفسية كثيرة. ومن أجل الإسهام في حل كل هذه المشاكل أو جزء منها يجب إنشاء وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني. ولتعزيز المجتمع المدني يجب أن يعزز النمو والتنمية الفكريان. ومن الطبيعي أن تختلف الأفكار والمواقف بعضها عن بعض وأن يكون لها حاملوها ومتخذوها. ولا يصح أن يفرض أصحاب تيار فكري معين رؤاهم على أصحاب التيارات الأخرى.
وليس من الصحيح الاعتقاد، كما يعتقد بعض الكتاب، بأن هذا الإنشاء والتعزيز من شأنهما أن يحلا كل المشكلات. حل المشكلات أو حتى قسم منها مرهون بتهيئة ظروف اجتماعية وسياسية وثقافية ونفسية واقتصادية مواتية لتحقيق الحلول، وإنشاء وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني من شأنهما أن يكونا جزءا من هذه الظروف. وإيجاد تلك الظروف عملية تراكمية، عملية ذات أبعاد مختلفة، عملية في سلسلة ذات حلقات. وإنشاء وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني من شأنهما أن يكونا بعدا واحدا مهما جدا أو حلقة من الحلقات التي تنتظمها سلسلة من المؤسسات اللازم توفرها للتصدي للمشاكل القائمة.
والكلام نفسه يصدق على مؤسسات من قبيل المؤسسات الديمقراطية من قبيل الأحزاب والبرلمان والصحافة. إقامة أو تعزيز هذه المؤسسات ليس من شأنهما أن يحلا المشاكل كلها أو قسما منها، ولكن من شأنهما، بوصفهما جزءا من الظروف اللازم توفرها، أن يسهما في الحل. وكذلك الأمر بالنسبة إلى التنشئة الصالحة وتعميم التعليم على الذكور والإناث وإتاحة فرص العمالة، فمن شأنها، بوصفها جزءا من تلك الظروف، أن تسهم في حل المشاكل.
وحتى يزداد المجتمع قوة وتزداد معرفته بكيفية الدفاع عن نفسه وحتى يحقق قدرا كبيرا من التوازن ينبغي أن يكون الشعب أكثر إنتاجا وليس مستهلكا فحسب، وأن يكون مناقشا متفاعلا مرسلا وليس متلقيا فقط، وأن تكون حاجته المالية والاقتصادية إلى أصحاب السلطات الرسمية أقل وأن يكون لديه قدر أكبر من الوعي ومن الثقة والاعتزاز بالنفس.
هذه الظروف كلها وغيرها إذا توفرت فان من شأنها أن يعزز بعضها بعضا. ومن شأن أي ظرف منها أن يكون هدفا بحد ذاته يُسعى إلى تحقيقه، وأن يكون أيضا وسيلة لتحقيق ظروف أخرى. فمن شأن إنشاء مؤسسات المجتمع المدني أن يسهم في دعم وتشجيع المفاهيم والمؤسسات الديمقراطية وفي تحقيق النشاط الاقتصادي الذي يعود بالنفع على أفراد الشعب ويقلل من اعتماد الدولة على جهات أجنبية، مما يسهم في تعزيز الاستقلال السياسي والاقتصادي للبلدان النامية.
وتؤدي مؤسسات المجتمع المدني وظائف، منها كبح طغيان هيئات السلطات الحكومية والسلطات غير الحكومية على حقوق المجتمع بمختلف شرائحه، وتمارس تلك المؤسسات قدرا كبيرا من الردع لتلك هيئات في ظل النظام الديمقراطي أو النظام غير الديمقراطي، إذ يكون للموقف الذي تعرب تلك المؤسسات عنه أو تتخذه أثر رادع لتلك الهيئات.
وفي ايامنا هذه تكثر التأثيرات التي مصدرها الحكومات الأجنبية والشركات عبر الوطنية وآليات
العولمة في الحياة داخل الدول. ويمكن لمؤسسات المجتمع المدني أن تؤدي وظيفة أخرى وهي تعزيز موقف هيئات السلطة الحكومية في الدولة التي تنتمي تلك المؤسسات إليها حيال تلك التأثيرات. وحتى تمارس مؤسسات المجتمع المدني دورها بفعالية في التصدي لتأثيرات الحكومات والشركات والجهات الفاعلة الأخرى الأجنبية من اللازم أن تكون العلاقات بين مؤسسات المجتمع المدني وهيئات السلطة الحكومية الداخلية علاقات لها من مراعاة مواقف مؤسسات المجتمع المدني ما يجعلها تنبري للدفاع عن موقف هيئات السلطة الحكومية من الجهات الفاعلة الأجنبية.
وواقع الحال هو أن العلاقات بين مؤسسات المجتمع المدني وهيئات السلطة الحكومية متردية وسيئة ومتوترة ومحتقنة، وأحد الأسباب في ذلك أن هيئات السلطة الحكومية لا تراعي المراعاة الجادة الحقيقية مصالح واعتبارات مختلف شرائح الشعب ومؤسسات المجتمع المدني. ولا تراعي تلك الهيئات تلك المصالح والاعتبارات لأن تلك الهيئات تعتقد – خطأ – أن مراعاتها لتلك المصالح والاعتبارات تفشل محاولات تلك الهيئات لمواصلة تولي السلطة الحكومية وأيضا لأن تلك الهيئات تربطها بالجهات الفاعلة الأجنبية مصالح سياسية واقتصادية تتجاهل مصالح واعتبارات الشعب ولأن تلك الهيئات خاضعة أو مُخضَعة لإملاءات تلك الجهات الأجنبية.
وينشأ استياء وسخط لدى مختلف شرائح الشعب حيال هذه الحالة المزرية، وتنشأ فجوة قد تكون ضيقة فتزداد عمقا بين تطلعات المؤسسات الحاكمة وشرائح الشعب، وتنشأ توترات وانسدادات وتشنجات بسبب عدم الاستجابة لمصالح واعتبارات وتوقعات الشعب. وقد تنشأ حالة تتجاوز تلك الحالات شدة وقوة وإشكالا. ويذلك أحيانا كثيرة تكون الحالة العامة مهيأة لأن يجري تفعيل التعاون أو التعاضد بين الهيئات الحاكمة – التي أصبحت معزولة تقريبا في هذه الأثناء عن محيطها الداخلي – والجهات الفاعلة الأجنبية الطامحة والطامعة والمتربصة. ولهذا التعاضد وجوه منها التقاء مصالح الهيئات الحاكمة والجهات الفاعلة الأجنبية في اعاقة نشوء مؤسسات المجتمع المدني وفي إضعافها وحتى ضربها.
وبسبب عدم الأداء الفعال للهيئات الحاكمة في البلدان النامية في عملية التطوير والتحديث والوفاء بحاجات الشعب الضرورية توجه مؤسسات المجتمع المدني، إنْ وُجدت، الانتقادات الى الهيئات الحاكمة، مما يزيد من سعة الفجوة بين تلك الهيئات والمؤسسات. ومما تسهم ايضا في تعميق الخلافات بين هيئات السلطات الحاكمة وتلك المؤسسات السمة غير الديمقراطية لتولي وممارسة السلطة الحاكمة في كثير من البلدان النامية.
ومما أسهمت في إضعاف أو إعاقة نشوء المجتمع المدني غلبة قيم البداوة في العصر الجاهلي وحس الاستعلاء على أصحاب المهن والحرف الحرة والصناعات وعلى المجتمع الحضري بسكانه في القرى والمدن في العهد الأموي والعهد العباسي وعهود أخرى في التاريخ العربي. كان لهذه النظرة البدوية أثر سلبي في سياق نشوء المجتمع الحضري والمدني الذي من المفترض والمتوقع أن يشكل أصحاب المهن والحرف الحرة والصناعات أحد أركانه الرئيسية. ولهذه النظرة البدوية أثر سلبي حتى أيامنا هذه في النسيج الاجتماعي العام وفي تحديد مواقف أو سلوك الناس.
وفي القرنين التاسع عشر والعشرين نادى رواد النهضة في الوطن العربي بإنشاء أو ترسيخ قيم ومؤسسات المجتمع المدني وبذلت محاولات لترسيخها. في هذين القرنين أنشئت نقابات وأحزاب سياسية ومنظمات مدنية عربية. ومن تلك المنظمات الجمعية العلمية السورية التي انشئت سنة 1852 برئاسة محمد أرسلان، وجمعية الآداب والعلوم التي انشأها بطرس البستاني وناصيف اليازجي في بيروت سنة 1847. ولكن نشاطات تلك الهيئات لم يكن لها اثر يستحق الذكر في النسيج الاجتماعي، وبقيت قيم ومؤسسات المجتمع المدني غائبة او ضعيفة.
* أكاديمي وكاتب فلسطيني مقيم في الولايات المتحدة.