القصيدة كائن من لغة ولحم
يولد النص الشعري بعد مخاض قد يتجاوز التسعة أشهر ، لهذا فهو كائن حي مضمخ بالا نفعال والرؤية ، هذا المولود ا للغوي الغامض لا يفهم بطريقة التشريح التقليدية ، ولا بالزج به في مختبرات طبية لقياس درجة الحرارة فيه . لهذا ، علينا ان نغير ادواتنا ، لأن النص نظام (لحمي ) وليس كائنا ميكانيكيا .
الكتابة الشعرية عملية خلق عسيرة يشترك فيها العقل والحواس اللاشعور،وتكون مدعمة بمقصدية تتسم بالحد الأدنى من الوضوح ، إضافة الى معرفة غير قليلة بأسرار الخلق الفني .
فإلى أي حد أحدث الشعر الحديث –التسعيني نموذجا – قطيعة معرفية وجمالية مع المنجز الشعري للأجيال السابقة ؟ وإذا حصل هذا ، فما هي المرتكزات التي يرتكن اليها في بناء اختلافه ؟
شخصيا ؛ أرى أننا نعيش عصر انحطاط شعري بالمعنى التاريخي والفني ..ربما يبدو هذا الكلام صادما بالنسبة الى الذين يسرهم أن يتحدثوا عن قارات وهمية فتحها الشعر الحديث .شعر العشريتين : الأخيرة من القرن العشرين والأولى من القرن الواحد والعشرين ، شعر جامد ، لا إحساس فيه ، لا شك أن كثيرا من الناس تأثروا بالرمزية والسوريالية ومزالق التجريد ووهم التغريب ، فانعكس ذلك على كتاباتهم بصورة مشوهة ؛ فلا هم كتبوا نصا عربيا محملا برائحة التراب وريح الصحراء ، ولا كتبوا نصا حديثا يستجيب لروح العصر.
هم مثل طاووس أراد أن يقلد مشية الحمامة فنسي المشيتين معا ! السوريالية كما ظهرت بأوروبا اتجاه فكري ،رؤية للمجتمع ، أسلوب انتقادي ، أنتجته ظروفه الخاصة ، وليس مسحوقا للتجميل نطلي به قصائدنا !
فما معنى أن نتسابق على سرقة الأحذية التي لم تصنع على مقاس أرجلنا ! في شعر الشباب تكرار.. الرؤية ضيقة .. ورشة العمل فقيرة .المهندس المعماري/ اللغوي تعوزه الخبرة والمراس .. المختبر الشعري غير مجهز بالأدوات الكيمياشعورية الكافية .
المنظار المستعمل لا يستطيع استشراف الكائنات المجهرية . اللغة مصابة بالحمى . العلاقة بالتراث النحوي والبلاغي هشة إن لم تكن منعدمة . ولكي يتضح هذا الكلام أكثر،يمكن تصفح المجاميع الشعرية التي ينشرها البعض باستمراروبلا خجل كما ينشرون سراويلهم في الريح ! إن الحساسية الجديدة غالبا ما تقوم على الوعي بأسرار المنتوج الشعري الذي سبقها ، الوعي بأسئلته ورهاناته ، الوعي أيضا بشروط انكتابه الداخلية والخارجية : فهل هذا متحقق في شعر الشباب ؟ إن معظمهم – سامحهم الله – لا يعرفون ما حدث شعريا في السبعينيات ! لكي تبني قارتك الشعرية الخاصة ستكون ملزما بأن تدرك عميقا جوهر الأسئلة التي سبقتك .
من أبرز نقط التشابه في شعرالشباب الاتفاق الجماعي اللاواعي على جملة من المرتكزات : تمجيد الخراب والشك . المضي غير الواثق والمتسرع نحو تحطيم وثنية اليقين والضوء . البحث في العبثي والفوضوي والمعتم .
شخصيا ، حين أتوجه صوب الكتابة ، لا أبتغي زرع الحرائق وإطلاق الرصاص على أعداء وهميين ، إن اصطناع المعارك الوهمية لعبة خاسرة أساسا ، وهي دليل على تيه الذات وعدم استقرارها .
الكتابة انطلاق من نقطة ضوء واضحة ..من نظام وجودي محدد ..من يقين ديني وفلسفي ومعرفي واضح .
أرى أن شعر الشباب يجب أن ينتبه إلى ما يلي :
القصيدة يجب أن تكون تعويضا جوهريا عن كل شيء ضاع منذ العصور الحجرية الأولى ، فهي بهذا المعنى نوع من التسامي والتعويض وخلق التوازن السيكلوجي العميق داخل عالم تحكمه الفوضى .
القصيدة في نظري مديح عالٍ للجمال والحرية والخلود . إنها بناء لواقع شعري آخرمتماس مع الواقع المرفوض . القصيدة ترمم ما فسد وتنقح ما غلط .
من واجبات القصيدة الجديدة اقتراح معنى جديد للإيديولوجيا . وتحضرني هنا قولة ( هنكلف ) " الالتزام ليس من الضروري أن يكون ارتباطا سياسيا فحسب ، فكل كاتب ملتزم ، بمعنى أن كتابته تبحث عن قيمة في عالم عديم القيم "
..