رائحة ووجوه
فتيحة الهاشمي
مازال هناك رائحة الثّوم تملأ أرجاء الغرفة الخانقة ... العينان الآسنتان حطّتا على شفتيه ... اللّزوجة تغطّي كامل جسدها ...حدّقت في الشّدقين المترهّلين ، رائحة الثّوم تزداد حدّتها ...الغثيان يداهمها بشدّة ، شدّت على صدرها بكلتي يديها ، الشّفتان الغليضتان تزحفان على كلّ الجسد ... خلف الأذن اشتدّ اللّهاث ... دفعته بشدّة ، ترجرج البطن المنتفخ ، اهتزّ ، قهقه ... رائحة الثّوم تطبق عليها أكثر فأكثر ، ظنّها تداعبه ، ارتمى عليها ، شفتاه تجوسان في اللّحم الغضّ ...اللّزوجة كالصّمغ ، تغرقها .. نفخت دخان سيجارتها ، نفخت ... طارت ، حلّقت ، خفيفة شفّافة ، مخلوقا هلاميّا ... كنت هناك ... أعلى الدّائرة ... العينان الحالمتان بالأنعتاق تعلّقتا بالوجه النّصف ملاك / النّصف شيطان ... مدّت إليها أصابع ملهوفة حتّى ثمالة الدّمع ، فرّت الدّائرة إلى الرّكن القصيّ، تناثر الوجه، تساقطت قسماته... الشّخير يزداد ، الرّائحة تكتسح المكان و السيجارة تحرق أصابعها ، ألقتها لاعنة كلّ شيء ... ألقت بالعلكة إلى فيها ، ] كلمة Adieu ] هي اللّي بيّ ، هي أسباب ألكيّة .. طق ، طق ، طق ... امتدّت يدها إلى آلة التّسجيل ، ارتفع الصّوت ... الشّاب مامي ( يغمغم ) بالجزائري حينا و بالفرنسيّة حينا آخر ( وهي فرس جموح تهتزّ ، تدور تدقّ على الأرضيّة الصّلبة ، تشدّ شعرها ، تجذبه يمينا ، شمالا ، و كأنّها في حضرة ...الشّخير تعالى ، طق ، طق ، طق ، كلمة Adieu ... رائحة العرق ، عرق أنثويّ تشوبهرائحة عطر فرنسيّ POISON غطّت ... لا ... رائحة الثّوم مازالت تجتاح المكان .. كلّ الغرف تؤدّي إلى بعضها البعض ، الرّقعة الزّرقاء تعلو السّقيفة ، الياسمينة تحتلّ جزءا كبيرا منها ، الحرّ شديد بالخارج ، امتدّت يدها إلى الدّلو ، الحرارة خانقة و الماء يغريها ...فستانها الملقى جانبا اختفى ، لا أحد بالدّار ... ارتجفت من الفكرة الدّار سخونة بأولاد باسم اللّه !!! ارتعشت ، وضعت كفّا على ورقة التّوت و كفّا على الصّدر النّاهد ...رائحة الثّوم و الشّفتان اللّزجتان ، و لا أحد بالدّار ...عمّ ! يا عمّ ! خلتك م.... ! العينان المشتعلتان رغبة جرّدتاها من ورقة التّوت ، الكفّان اغتصبتا آهة الفرحة المنطلقة لتوّها من الصّدر النّاهد ..طق ، طق ، طق ، انفلتت حبّات المسبحة الشّاب مامي ، يحشرج وهي تدقّ بقدميها و ترسل شعرها مع الرّيح ... كنت تحبّ نفث دخان سيجارتك بشعرها، وكانت تنبّهك بأنّ الرّائحة تظلّ عالقة به و تخشى أن يتفطّن والدها لذلك، كنت تضحك منها و تتمنّى أن يحدث ذلك نكاية فيها ومنذ ذلك الحين احترفت قصّ شعرها، كانت تقطع جزءا من ذكراك مع كلّ خصلة تقطعها و لكنّك كنت و بسرعة تنبت برأسها من جديد...الثّوب الأبيض يلطّخ أللحائف الملقاة بعناية على السّرير ...الأضواء الخافتة تضغط على صدرها و صوت البحر يشدّها نحو القاع البحر أمامها و ... وراءها و الثّوب الأبيض يحرق عينيها ...أطرقت بخجل العذراء ... الأصابع المحترفة تجوس ... شمّ الحرقوس ... (جلجل صوت ) الحنّانة ( وهي ترسم ) العرف ...
ـ ليس هناك من يصمد أمام سحر حرقوسي سوف أحضر صباحا لأخذ المبروك
أصابع خالتي بيّة تحطّ على الصّدر و تترك لونها الحزين ، تفوح منه رائحة الفضيحة ...أصابعه تتحسّس سحر المكان .. أصابعها تتشبّث باللّحاف الحريري وعلى ثغرها توقّفت الثّواني .... طاف دوّى صوت الصّفعة ، الطّنين يزداد بأذنيها و الثّوب الأبيض يكتسح الغرفة ،كنت حاضرا بينهما في ليلتهما الأولى و الأخيرة !!! كلمة Adieu هي اللّي بيّ اللّحن يحتدّ و هي فرس جموح ، و ريحها شهيلي .. الشّخير ارتفع ، اخترق أوصالها ... عادت إلى منزل والديها ، تركت الكلّ يعتقد أنّها لم تكن ... كان هذا أهون من أن تعلن للجميع أنّك كنت عريسها تلك اللّيلة ... الأصابع تتحسّس الجسم الغضّ ، تفكّ أسراره ، عندما حضر وجهك النّصف ملاك ، النصف شيطان ، وانبثق اسمك كالجرح ... الشّخير يرتفع و ينخفض و البطن المنتفخ يذكّرها بنصّ البقرة و الضّفدعة ... دفعتها أمّها إلى الخارج ، ساقتها إلى قدر لم تختره أبدا ...عليها أن تتزوّج و بسرعة ... و حضر وجهك يومها أيضا ، كما كان يحضر كلّما تقدّم لخطبتها أحدما ... رقص هذا الملقى إلى جانبها ليلتها كما لم يرقص أيّ ثور في حياته أبدا انتفخت أوداجه ، و تناثر عرقه حيثما رفس و اللّون الأحمر يغمر المكان ... لم يسألها و لم تجبه ... لم يشمّ الحرقوس ، و لم تولول خالتها بيّة ( معلنة حالة ) الطّوارئ ..لم يحدث أيّ شيء ... في الباب وقفت الخادمة تشيّعها دامعة العين ... خطت خطوة نحو المجهول ، وضعت رجلا متيبّسة في السّيّارة الفارهة ...ارتجّت و الباب يصفق خلفها ، هل رموا خلفها سبع حجرات ؟؟؟ التفتت ، لا أحد ، لا صوت ، لا ولولة وراءه...... منذ تلك اللّيلة وهو يغدق عليها هداياه ، و يشكرها مقبّلا جبينها لأنّها جعلته الأوّل في حياتها ... الدّلو سقط في البئر ، و العمّ ابتلعته الزّنقة الحلزونيّة و أمّها لم تعد بعد ... لطالما تسلّل زوج أمّها إلى غرفتها ليلا ولطالما وقفت كالبلهاء أمام وجه أمّها السّاذج مريدة مصارحتها بالحقيقة ...ولكنّها التجأت إليك ، كنت ملاذها ، شاطئها ،على صدرك تلقي بهمومها و تستريح !!! كم كرهته ، و هي تتلمّس مكان الصّفعة ، و رائحة الثّوم تملأ المكان ، و اللّزوجة تغطّي جسدها ...الماء السّاخن يطهّر روحها ، تقف لساعات تحت الدّشّ ، حتّى يصيبها الدّوار و لا تتخلّص منها ... تخلّص من حبّها ، لن تتزوّجها أبدا إنها تربية ... ، و غاب عن الدّار ... تركها تنتقم منه ، منها ، من عائلتيهما ... قبلت بأوّل طارق لبابهم ... توقّفت الموسيقى ، سقطت حذو الجسد المنتفخ ، فردت يديها ، التصقت نظرتها بالسّقف المزركش ...ظلّت هكذا و كأنّها قدّت من صخر ... أحسّت بالسّقف يسقط عليها فجأة ، تخبّطت ، حاولت التّخلّص من الثّقل القاتل ... العينان المشبعتان رغبة سالتا على الوجه المقرف ، الشّفتان الغليضتان غاصتا في ...
عمّ ! يا عمّ !
الأصابع المجنونة تفكّان أسرار طفولتها ...
عمّ ! يا عمّ !
دفعته بكلتي يديها ، ازداد تشبّثا بها ... تداخلت الوجوه ، ضاع وجهك بينها ...تساقطت قسماته ....رائحة الثّوم غطّت المكان ... و البطن المترهّل تراقص فوقها ، عضّته بوحشيّة ،ازداد هيجانه ، أمسك بيديها ، شل ّ حركتها .. تذكّرت وصيّة أمّها
ـ اضربيه في مكان حسّاس ، ليس لك نجاة إلا بذلك !!!
هدأت كلّيّا تركته يعتقد أنّها استسلمت ، فكّ حصارها و هو يلهث ، ابتسم منتصرا ... رائحة الثّوم زادها اللّون الأحمر المنبثق من الشّفة الغليضة حدّة ... كان يعوي مثل الكلب الجريح ، منكفئا على وجهه ... طق ، طق ، طق ... انتفخت العلكة ، دفعتها خارج شفتيها ... ها هي تنتفخ و تنتفخ ثمّ باف تلتصق بأنفها، وجنتيها ... مازال يعوي مثل الكلب الجريح ، منكفئا على وجهه ...طق ، طق ، طق ، مازالت العلكة تنتفخ و تلتصق بالوجه الفاقد لونه ، مازالت تجلس حيث هي على أرضية الغرفة و حولها تناثرت لفافات الكلوروفيل ...
الهوامش :
كلمة ADIEU أغنية جزائريّة، تعني كلمة وداع
الشّاب مامي : فنّان جزائريّ : رائد من روّاد أغنية الرّاي الجزائريّة
عطر POISON عطر فرنسيّ عطر السّم
الدّار سخونة بأولاد باسم اللّه : مثل تونسيّ يطلق على المنزل الذي يعتقد أهله أنّه يسكنه الجنّ
شمِّ الحَرقوس : الحَرْقوسْ ، مادّة ذات رائحة زكيّة تتزيّن به العروس والمرأة التونسيّة بصفة عامّة بعد أن تتحنّى .
العرف : تزيّن به الماشطة أو الحنّانة العروس ، بنقش زينة معيّنة فوق نهد العروس و تنبعث منه رائحة زكيّة .
رموا خلفها سَبْعَه حَجْراتْ : مثل تونسيّ يطلق على الشّخص الغير مرغوب فيه أي أنّه يقع رمس سبع حجرات وراءه حتّى لا يعود .
!