مدارات
مدارات
مدارات
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مدارات


 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 احميدة بغا يتزوج

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
انعنيعة احمد
عضو
انعنيعة احمد


عدد المساهمات : 22
تاريخ التسجيل : 22/02/2011

احميدة بغا يتزوج Empty
مُساهمةموضوع: احميدة بغا يتزوج   احميدة بغا يتزوج Empty10/5/2011, 01:06


أفعال الأمر

كانت العائلة كلها مجتمعة ترتشف الشاي بعد العشاء.وكل منا يتناول حديثا يشارك به سواء من اجل أشياء جدية أو هزلية من اجل الترويح عن النفس والاستعداد إلى يوم غد في جو كله حيوية ونشاط. ولكن صوت الوالد جاء في أذني كالصاعقة ينصحني:
إذا كانت لديك القدرة،يا ولدي،حاول الآن إيجاد توازن بين ما هو روحي وأخلاقي واجتماعي، إن غذاء الروح والحفظ على جسم معتدل يحقق الانسجام والتوازن بينك وبين كل الناس ، و كل من الخليقة لا يصبح عنصرا مفيدا لنفسه وللأرض كلها والكون كذلك إلا بذلك.
أجبته:نعم، نعم، كن مرتاح البال، سأفكر في الأمر قريبا.
كان صعبا علي أن أتذكر كل أقواله، ولكني ما زلت أتذكر عشاء تلك الليلة. أحسست فيها انه يعدني ويعضني ويتبرأ من كعب أخيل الأحمدي، وهو يقول :
يا بني، تجنب شتائم بني البشر، وكن من خيرة الناس، إن الحياة قصيرة جدا وانه من الأحسن أن تفعل معروفا بنفسك وبغيرك، وكن أكثر الناس طيبة في هذا العالم من اجل التحضير لحياة أخرى. إن المؤمن من يرى أن الحياة قصيرة جدا . ويجب عليك أن تعيش فيها تماما كما خطط لها الله، وان تستفيد من نصيبك في الدنيا والآخرة. إن هناك حياة أخرى بعد الموت، أما ما تقوم به، يا ابني، فهو من قبيل الانحراف.
.وبعد ذلك مباشرة ، توجهت إلى نفسي صوب جسدي لأنه مصدر تفكير ومعرفة
لأجيبه : لا تضخم الأمور، يا والدي ، سأقرر في الأمر قريبا إن شاء الله .
كانت الساعة منتصف الليل تقريبا، عندما أحسست بالصفعة الثانية من نسيم الليل البارد على وجهي، ففتحت عيني واسعتين ضد ضوء التوهج الخافت للنجوم. وفي جو من السكنية والرتابة ، استلقيت مهزوما بعض الوقت . كان الصمت قد أطبق على المكان بعد أن أنهى أبي كلامه. كان كلاما يخترق الحدود في حركية تمليها عليه كلماتي الحرة والطليقة التي تنفلت لكل التأويلات و تحول كل حلم إلى كابوس ، وكل يقظة إلى ضياع . كنت أحس في تلك الساعة أني مهزوم ، وأني متعب جراء عطشي الشديد، وملح خبزي الذي أسرى الجوع في كل أحشائي . رجعت إلى نفسي أتفقد ذاتي ، فوجدت جسدي نعشا لروحي . وتبين لي أن الوقت قد حان لأملا حياتي صداعا ، وغواتا أتخلص به من وقع الفراغات التي بدأت تنخرني و تقتل في إحساساتي. زواج خرجني من منفاي، من جسدي الميت، لألج جسدا أخر حيا، جسدا يضيء الفضاءات
المعتمة، وأحول صحرائي إلى واحة تزهر نخيلا . إني في حقيقة الأمر، ندمت أني أجرمت في حق الكثير من أبنائي . أولاد نسيت التفاصيل في قتل جوارحها . وفي يوم الغد، تبين لي أن أسافر إلى إحدى المدن القريبة التي كنت أفضلها لقربها ولبساطة أهلها. كانت الحافلة تطوي المسافة دوارا بدوار.كانت كل الدواوير
متشابهة. ليس للزمن فيها قياس ،كانت الهندسة تنعدم في بيوت الطين والكالبتوس ،لا أبواب حديدية ولا أطراف تؤمن المكان .لا ماء ولا ضوء،وتراهم في الليالي المقمرة ، على الأحاجي يسهرون .دواوير تخرج الناس فيها وتدخل على نباح الاكالب ، وتستفيق كل يوم على صياح الديكة . كانت الناس وقتها... تسابق الطيور إلى أشجار التين او لجني فاكهة الصبار... للفطور أو لتحتفظ به في الظل للغذاء . كان لهم مورد واحد للعيش : آباء يجرون وراء أغنام ، وأطفال صغار وراء الشوارد من الأبقار . يحرثون أرضا عاقرا تكثر فيها الأشواك والحشائش،ولا تعطيهم إلا صاعات معدودة لا تكفيهم لشاي الضيوف. وإذا ما حلت بهم السنوات العجاف يكون ، ...الجوع ...والعري و الأوساخ شعار كل الأكواخ . تراهم ، عندئذ ، يتحولون إلى عرائس نحاف أو يهاجرون إلى المدن الكبيرة ليسكنوا بيوت القصدير ويقتاتون على الخبز الحافي..إن هم تحسنت أوضاعهم العسير ة. وكان بعضهم يهاجر إلى أوروبا . يحرقون لتجتمع حولهم سكان البلدة يوم يرجعون فتراهم...يتعاظمون... عندما ينفقون وتراهم يتباكون يوم يرحلون ..تاركين أهاليهم لسنوات يستلفون.
بينما كانت الحافلة تطوي الأرض بدأت تضطرب أفكاري وتنضب كلماتي من كثرة التساؤلات التي تجوب ذهني . كنت أقول لنفسي هل يجوز ان اسمح لنفسي بزواجي من امرأة بدوية ويكبر أبنائي ثانية في هذه البيئة التي رأيت والتي عشتها وما زلت أعيشها مع أهل بلدي . هل سيكرر التاريخ نفسه بقراءة شخصية احمد المتمردة ضدا على كيانه المهزوم . طبعا سأجيب على سؤالي بالنفي . لا ينبغي لما سيأتي أن تتكرر مرتين .
وصلت إلى المدينة أملا في قضاء يوم مريح بعيدا عن كل الضوضاء . فضلت الجهة الشاطئية من المدينة . تمنيت الجلوس في مقهى أكون فيها رجلا نكرة لاني كنت متوترا بعض الشيء .جلست في إحدى المقاهي الفسيحة الأرجاء .ومن حسن حظي ، وجدتها في بداية الأمر فارغة . لا تستقبلك فيها إلا أهواء باردة من مكيفات تزيل التوتر والقلق . كان الصمت رهيبا تكسره أحيانا ردحات موسيقية هادئة.لم أتحمل الأمر ،لأني لم اقو على البقاء داخل الجدران وأنا في عطلة صيفية.فكرت في الخروج إلى شرفة المقهى حيث الهواء الطلق من نسيم البحر العليل الممزوج بقطرات الندى .قطرات ضباب مالح يتناثر هنا وهناك.مكنني ذلك من بسط نظري الى خارج المقهى ليمتد حتى البحر .
هناك على شاطئ الرمال الذهبية ، أثارت انتباهي ضحكات ورقصات بعض الولدان من حولي .وهي قهقهات حميمة تثير الإحساس في النفوس وتختزل الوجود في الوجدان . كان الغلمان الشباب يقومون ببعض المداعبات البريئة ، مداعبات وترويض للنفس خالية من كل تنبيه أو احتراس ، ودون أبه بالآخرين . كانت شفاهم تمتلئ أحيانا بعضها ببعض ، وتتمايل أجسادهم في حركات غريبة تمتد فيها الأيادي وتتشابك ، ثم تتقدم صدورهم ببطيء فيلتصقون.
جلست استطلع المكان. وبينما اقلب أوراق صحيفة اشتريتها في طريقي من اجل تعبئة الكلمات المتقاطعة وقراءة بعض الخواطر من ثقافة الجور نال، أحسست أن أحدا بجانبي في ارتباك من نفسه يتلصصني . لم تكن معالمه واضحة بشكل جيد.التفت إليه لأتعرف عنه قرب . ففوجئت أن من كان يتأملني كانت فتاة في مقتبل العمر . كانت أنثى ، هندس الجسد جمالها ، و تفنن الخياط في صنع ملابسها ، أو بالأحرى كانت فتاة علمت الخياط فن القص . فتاة كانت أثار الحشمة قد ارتسمت ملامحها عندما أدركت أني أحسست بالاندهاش منها وهي تطلبني قداحة لتشعل سيجارة من النوع الممتاز. بعد أن ألقت التحية ، أحسست أن طلبها هذا كان بمثابة همس في ادني مزجت فيه الدارجة بالفرنسية والرقة في الأسلوب . شعرت على إثره بالمرارة في حلقي حين هتفت بصوت مبحوح لأرد عليها التحية . ولما سالمتها.... ، وافقت وقتها على مجالستي .....كانت تبدو منزعجة بعض الشيء . وعندما سألتها عن سبب ذلك ، ردت :
أني كذلك... من بعض المنحرفين ،فهم لا يحترمون شعور الآخرين .
قلت بصوت لطيف أيضا فيه إجلال وعظمة للعنصر النسوي :
لا تتوجسي ، فانا مسالم فوق العادة . ليس سكان الأرض كلهم قبيحين ولا الخلق كله أيضا ، ينبغي الوئام بين الناس في أي وقت حتى يشعروا أننا موجودون مثلهم. لأن السماء فوقنا كلنا ولن تختفي إذا ما بكينا لوحدنا...!
ولما سألتها عن عملها أين تشتغل ؟ وكيف تكسب قوتها ؟ أجابت متأنية ، وعلى وجهها ابتسامة عريضة تختزن وراءها قراءات كثيرة...:
إني اهتم بتطهير النفوس وتزيينها....وأنشط جلسات كثيرة ...اشرح فيها للحضور أرائهم وانقل بينهم الأخبار.... إلا أن هؤلاء..قالوا عني إني الساقطة الخائنة . ورغم ذلك ، إني اسهر دوما على مراجعة كلماتهم و انتقائها من اجل المحافظة عل طهارة أرواحهم .. . و مزاجهم . إنهم يفتقرون إلى المعرفة ويجهلون تماما جوهر مهمتنا على كوكب الأرض .
ولما رأيت أنها تتوفر على سيولة في الكلام لا نظير لها ، حاولت مقاطعتها :
نعم، إن عليهم فتح قلوبنا وعقولنا، والعيش معنا بسعادة ويسر لنكون قادرين على الذهاب جماعة واحدة للقاء خالقنا ! انه مؤلف جميع هذه القوانين الكونية لاكتشاف تفاوت سلوكياتنا . ولكن ،لا أحد يقوم بواجباته
أحسن قيام ، إما عن جهل للرسالة التي جاء من اجلها أو ربما لأنه يراها تعرقل تحقيق ميولا ته المادية ونزعاته الشيطانية .
وبعد فترة من السكوت القاتل....، تابعت الحديث قائلا:
إن حياة الرجال العظام يمكنها أن تجعل من حياتنا المتوسطة حياة سامية ، وتترك وراءها بعد الموت آثار أقدامها على رمال الزمن لأجيال المستقبل . للأسف، إن معظم الرجال الأقوياء مشغولون بأنفسهم عن الناس .
وكأن كلامي لا يعنيها في شيء، لاحظت أنها تركز على أشياء لا تدركها إلا النساء بعضهن لبعض...، فسألتني وكأنني اعرفها لسنوات مضت أو لأنها تثير أنظار الناس على أن لها باع في العمل الذي تقوم به :
كيف أبدو لديك وانأ جالسة أمامك ألان ؟...هل أبدو مختلفة بعض الشيء عما كنت عليه لسنوات مضت ؟
قلت : أنت اليوم أكثر جمالا من ذي قبل .اليوم كبرت وأصبحت في سطور العشق نونا للنسوة.
كانت تعرف إني أجاملها وأن الأمر يختلف تماما عما ينبغي أن يكون .وعندها زادت قائلة:
إن هؤلاء اليساريون.... لا يأتون بأفكار مثالية... ولايودون إلا الاستمتاع باللغو... وراء حياة الآخرين...، وان الذين يملكون القدرة على العطاء والابتكار... لا يملكون تلك الجرأة لتحقيق تلك الرغبة.
علمت على الفور أن الكلام كان موجه إلي فسألتها عن رغبة هؤلاء منها...، فردت دون حشمة أو حياء....:
إنهم رجال شبقيون فقط . فهم دائما يطاردونني وأعينهم متوقدة ورائي ... رغم أني ساقطة .
فقاطعت كلامها رفقا بها :
لا ،لا تقولي هذا الكلام ،حاش الله أن تكوني كذلك ، فأنت مواطنة صالحة ككل النساء ، و ستتحسن الأمور إن شاء الله .
قالت وهي متأكدة من أقوالها كأنها ممن عاشوا تجارب طويلة لان سنة واحدة من عمرها كلفتها عشرات السنين :
أني أدرك الأمور جيدا، إني كبرت ، واني ارغب في عيش كريم ، أود أكلا و شربا محترما . نعم ، أريد أن اغتسل وان أتطهر . واني ، بالتأكيد ، سأدفن هذه الورطة الشديدة التي أتخبط فيها ، وسأتخلص من هذه الكلمات ، ومن هذه السياسات الزائفة ، والحكم العقيمة ، و النظريات والمؤامرات المالية وهزاتها ، ومن هؤلاء المتنورين كذلك ، وكل الأوباش و أقل ما يقال ، في النهاية ، ويؤسفني قول هذا ، إني أصبحت عاهرة أفكاري دون أي عار في اختيار ما لا يمكن تصوره من كلمات جاهزة:
إني اشتاق إلى العدالة والمساواة ، وكذلك المصالحة مع نفسي ومع الآخرين .
وبعد غفوة قصيرة من التفكير، أفصح القلق عن وجودي، ولم يبق في ذهني إلا امرأة كانت تتنفس في ظلي مستلقية تنادي مرآة مكسورة تعكس خيالا يتحرك في دجى عوالمي ، خيال لا ترصده غير الشياطين . عجبت لهذه المرأة أنها كانت تنادي نعشا يمتطي حلم ظلمة سراب لاينته . وبعده ، استوقفت تفكيري الطويل تسألني :
انظر بعيدا إلى هناك ، ما فحوى هذه القبلات الحارة وذلك العناق الصادق وتلك الشطحات الراقصة عند هؤلاء الأولاد؟
كنت انحني برأسي وابتسم قائلا :
إني اسمع اصواتا متجانسة ، أصوات الفرح والأغاني ، أصوات أولاد وبنات ، أصوات يغلب عليها طابع التيه والتخاصم الممزوج بالطرب والشهوة . وارى أمامي شخصياتها المسرحية تتجاذب وتتعارك ألوانها لتلتحم في نقطة واحدة . وأحس أن حركيات ملحمتها تدغدغ ا أحاسيسي ، وتخفي كل مشاكلي وراء جوانبي الخفية والمتجسدة في كل تقاسيم جسدي .
وبينما كنت اطل براسي ، وأطيل النظر الى الشاطئ ، تبين لي أنني لم أكن هنا قبل ثلاثين سنة مضت ، وأني لن ابق صامدا هنا إلى الأبد أكيد ، إني كنت حيا منذ أن خلق الله ادم . وأنا اليوم هنا دما ولحما بعد أن تصارعت كثيرا من اجل الخروج مند الأزل . لكني ، لم أكن قويا بما فيه الكفاية ، إني كنت متنحيا . نعم ، كنت أتنقل على شكل كيمياء مادية من جد إلى جد ، نعم كنت ذرات وجزيئات . واليوم جاء دوري . فانا، لست إلا حلقة مفرغة في سلسلة أدمية طويلة . وبما أنني أدركت أنها تتكلم لغتي تماما ،عملت على استخدام وسيلة تكون أداة صارمة رغبة في حصولي على حل مناسب لأتخلص منها.فناديتها من تحتها قائلا:
إني أتوق إلى فرس جامح، اهمس في أذنيها أن تكسح بي الرمال دون كبوة . واختفي راقصا من ربوة إلى ربوة دون إرهاق . أتلذذ مساحات جلدها والتحم بظهرها أثناء ركضها، وانصهر في تقاسيم صدرها عندما تستلقي على ظهرها لتبرز تضاريس هويتها . وبعد أن اتعب من تأجيل يقظة الصباح كل يوم ، و يتكرر الحب دوما تحت اشتهاء المطر، أملأ الدنيا صداعا. لكن فرسي غائبة عن هذا المشهد الفر جوي الذي نحن بصدده .
وبعد ذلك ، بدأت تستعمل رؤية جديدة في مخاطبتي وهي تضحك :
أنا لا أحب هذا النوع من الرجال ، وهم نوع من القمامة بامتياز ، لا ارغب في كل من يتباهى بمغامرات غرامية أو شيء من هذا القبيل . إن زوجا مثل هذا لا يعبر عن طموحاتي ، سأفقد معه تدريجيا كل الاحترام
لنفسي ، وأفقد كذلك شخصي في دوامة التناقضات التي يعيشها . بفضل جهودي وحدها ،إن شاء الله ، اعتقد أني سأصعد السلم الاجتماعي إن أنا تمكنت من الحصول على أصدقاء مخلصين وصادقين . وهذا ممكن بالتضحية بما تبقى لي من فخر وكرامة واعتزاز بنفسي ولاسيما إذا ما حدث تغيير في المناخ الاجتماعي .
لم استطع إخفاء شعور لا يوصف ، شعور بالغبن كان مطبوعا بالجدية ، شعور امتزج في نفس الآن بالشكوى والنداء و الرطوبة في العيون ، شعور كان أكثر تعبيرا وأكثر بلاغة من أي خطاب من العالم ، شعور توج بالتعبير عن الإنسان الغريب جدا ! أحسست أن شيئا ما قد غمرني و شمل جميع حواسي وكل عضلاتي إلى درجة الارتجاف . اعتقدتها في بداية الأمر مازحة ، ولكني كنت اسمع منها الحقيقة للمرة الأولى من أعماق أفكارها المظلمة . وتبين لي في الأخير أني خسرت معركتي معها ، وأنني فقدت معها التوازن في الكلام ، ولم اعد أجد ما أقوله من شدة الاحتقار الذي ألم بي . فرفعت رأسي ببطيء لأنظر بعيدا إلى عباب البحر وأنا أتمتم بعض الكلمات :
إن الرجل ، في جوهره ، أبعد ما يكون عن الكمال لفهم المرأة . وخوفه على نفسه منها هو الذي يدفعه إلى الاهتمام ربما بالتفوق عليها لأنها تطارده وتحرك فيه أحاسيسه . هذه الخصائص البشرية توجد في كل المخلوقات ، وفي المرأة حتى ، مع العلم ، أنها تخفي معالمها وأبعاد حقيقتها . هذا، فقط ، هو الفرق بين امرأة و رجل في عجلة من أمره .
فأجابتني وهي تبتسم كأنها علمت ما كنت أفكر فيه:
لكن الرجل ، هو كائن فردي وجماعي في الوقت نفسه ، والحفاظ على توازن القوى المادية لديه لا ينبغي أن تتجلى في محاولاته للتفوق على أصدقائه ولا سيما زوجته . وهكذا ، عليه أن يقدم بعض التنازلات للحفاظ على هذا التوازن لأنه مفيد للغاية . وهو احد الركائز التي تقوم عليها بالضرورة التوافقات بين ما هو مادي وما هو حسي أو روحي .وعليه ، أن يوازي كذلك بين احتياجات الروح وحاجات الجسم . وأما ملذات الجسد، فإنها لا تنتهي أبدا. وما نحن سوى مظهر من مظاهر السعادة الزائلة التي تختفي باختفائنا...
بدأت في التفكير في القتال مع لعنة القيم التي فاجأتني بها هذه السيدة . ثم، قررت في أن اجبر نفسي على التحالف مع الأشرار لأظهر بمظهر لائق على الأقل لكي أصبح شابا في سن مراهقة متأخرة . ليس لأنني أحببتها ، ولكن في الواقع ، من اجل المساواة والمصالحة معها . ثم ، تابعت دردشتي معها في هدوء :
صحيح ، كل هذه الأسئلة وغيرها كثير في أذهان الناس لشرح مزايا الدين والعادات والتقاليد . وليجعلوا تحت تصرفهم بعض الصور النمطية المغرضة التي لا أساس لها من الصحة . فيزرعون في أذهان غيرهم أفكارا زائفة .
فأجابت على الفور :
نحن معشر النساء ، يمكن أن نسمع ، أو على الأقل ، نفهم ،لأن لدينا بعض النقاط المشتركة على أي حال مع الرجال ! لكن طريقة تطوير مكافحتهم العنصرية ضد المرأة مثلا أو نظرياتهم الخرقاء الأخرى المتحيزة ، هي بمثابة تسلط على حقوقها الوجدانية والنفسية والاجتماعية و الوطنية حتى إلى درجة أنها أصبحت تعاني من البطالة وانعدام الأمن ، والفقر، ويزيد على ذلك غلاء تكاليف المعيشة ....وهلم جرا.
في حين أن واحدة من الإجابات الكبرى التي كانت أمامي ، واضحة وقاطعة هي :
على العموم ، إن واحد ونصف مليار مسلم في جميع أنحاء العالم يتعايشون على الأرض منذ أربعة عشر قرنا !
وعندها نظرت إلى وجهي وهي كلها حيوية وغضب استغرابا لما قلته صارخة :
إن كل ما تقوله لا صلة له بالموضوع ، وانك تخلط كل شيء من اجل غسل أدمغة الناس مثلهم فقط . إن خطابهم واحد وان هؤلاء الناس يشكون من الاستغلال ويطالبون بحقوق معقولة .وبدلا من الوقوف بجانبهم، نلقاهم مع أرباب العمل يطالبون بالمواطنة والمسؤولية والحكامة من اجل أن تستمر المعاناة و الاستغلال لطبقات الشعب الضعيفة ، وأنا من إحدى ضحايا هذا المجتمع . تصور معي امرأة مجازة عاطلة تمارس البغاء عوض مشاركتها في تربية أولادها ، وزوجها...ها أنذا اليوم لا آهل ولا أسرة لي ولا أي شيء .
وسط مشهد من الغيوم الذهبية ذلك المساء ، بدأ تفكيري ، يخلط كل أوراق محاورتي ، في وقت سابق لأوانه ، قلت لها :
السبيل الوحيد هو أن تفعلي مثلي ! تعلمي لغتهم حتى تتعرفين عليهم أحسن ، وأنت ربما تفهمين أفضل مني ثقافتهم ، ودينهم ... عندها فقط اعتقد انك ستكونين قادرة على فهمهم. وبالتالي، وضعي آنئذ حرية اختيارك لطريقك دون خطأ ! ومهما كانت إنجازاتك الثقافية أو الروحية ، فهموم البشر ، و مخاوفهم ، ودوافع تطلعاتهم لها قواسم مشتركة كثيرة لا يمكن تجاهلها . أما أنا ، فمن كل قلبي ،لا ألومك على مبادئك . وأني أغفر لك دون تشويه للحقيقة طبعا، فنحن في دولة إسلامية و ديننا هو الإسلام.
كان من السهل على محاورتي أن تتفهم الإسلام ، وان تتطلع إلى حكمته ، ولكنها تمادت في تفكيرها الإيجابي و منطق تحليلها الموضوعي، مما يشكك في نيتها الصادقة ، وردت علي وكأنها واثقة مما تقوله :
في الواقع ، كنت أعتقد أن الناس كلهم يسمحون لأنفسهم بالتعامل مع الغير ، ولكنهم كثيرا ما يجنحون إلى الخطأ ، لمجرد الفخر... أو الجهل...بحقوق الغير. هناك الكثير من الظلم، و الكراهية ، والجرائم على
الأرض، لان الكثير من الناس "المتحضرين" يلهثون وراء آخرين و بعيدين كل البعد عن العقل والبر والدفاع عن العدالة وحقوق الإنسان . واني أجدهم لا يساهمون في توسيع فوائد السلام في العالم ، وإنما في محو آثار ثقافة الاختلاف ، أو الإساءة إلى الإسلام حتى أكثر مني .
بدا على وجهها شيء من القلق ، وضعت يدي على كتفها وهمست لها لطمأنتها . فوجدت أن نظراتها تتفانى ممتنة ، لتكميل عاطفتها وهي تقول :
إني مستاءة للغاية ومع ذلك ، إني مسالمة و أتساهل مع ما من شأنه الإساءة إلي . طبعا أنا لا اطلب من احد التخلي عن لغته وعاداته أو دينه ، و لا افرض عليه ثقافة سوبر ماركت ، أو لحم الخنزير حتى . هنا في بلدنا الحالة أسوأ بكثير .
ثم، تابعت قولها بالفطرة دون أن اتاكد بالفعل من قصدها . أصغيت إليها بإمعان وهي تتابع قولها :
فرنسا قتلت كل الثقافات ، بل إنها أعدت مناهج دراسية ملغومة باللغة الفرنسية . كان ذلك منها إشارة صريحة للتخلي عن العروبة ، وعن ثقافة الكسكس وشرائح التين يوم العيد ، وعن الصينية مع الضيوف وقيام صلاتهم باللغة الفرنسية . أنا ضحية كل هذا ، فلماذا يلومونني إذن . أنا كنت أعيش هناك مع عائلتي ، لكنهم طردوني من هناك لا لشيء إلا لأخلا قي المتهورة حسب اعتقادهم .
أبلغتني في وقت متأخر نوعا من المعلومات لم تكن لتخطر على بالي بدونها . كانت لها بالفعل صور تذكارية عن المغرب تعكر بطاقتها الوطنية . كانت امرأة تتقن بامتياز تضاريس اللغة العربية واللغة الفرنسية على حد سواء . لكن قسوة الفقر جنبها متاعب الكراسي الدراسية هناك والابتعاد عن عالم الدراسة لتتغذى على انساغ روحها وتضاجع الناس بسكرات جسدها المثخن بالجراحات العميقة التي شمخت في قلبها . لكن ما حيرني كثيرا هو سؤالها الذي كان بمثابة الصاعقة على أسماعي :
ولكن ، لماذا نحرم أنفسنا من الكذب والنفاق؟ إنها الطريقة الوحيدة للتعامل مع مجتمعات لااخلاقية .
لماذا نحرم على أنفسنا تشويه الحقيقة ؟ و نخاف مؤسسة الحق ، ونتركهم يقولون بصوت عال عكس ما يفعلون لجلب انتباه الناس الدراويش أمثالنا ، ونحن نتفرج ، ويسمعوننا نباح كلاب صغار حين يرتجف جياعنا ؟ هذه هي طريقة قوة اليدين وثني الظهور عندهم . إن أي شخص هنا ، لم يعد يتعامل مع الأمور بعقلانية . نعم ، باتت أعصابنا مشدودة هذه الأيام ، وإننا أصبحنا في حالة تأهب قصوى واستنفار دائمين !
بينما كانت تتحدث ، كانت الابتسامة دائمة على شفتيها . كانت ابتسامة من هم على بينة من قضيتهم ومن هم أكثر اقتناعا من غيرهم من الرغبة في تحقيق هدفهم . لكنها كانت على ما يبدو تتمسك بخيط ضعيف جدا تحت نقطة ضوء صغيرة تعلق بلعاب الشمس إلى جزيرة الأمل . كان أملها معلقا على الجسد والروح فقط.
وبكل ما لدي من الخجل دعوتها إلى التحالف معي وأنا أوسوس لها بكلمات حلوة متنقلا خطوتين إلى الوراء
وواحدة إلى الأمام :
إن أولئك الذين زعموا فلسفات أخرى تنشد لنفسها السلام للجميع قد ذهب ريحها ، وبات حتى الآن وضعها يخلق الانقسام بصورة تدريجية بين الناس ، مما يسبب للناس في طرح أسئلة كبيرة من اجل إعادة التكيف مع الأمور الطبيعية و استعادة العدالة الاجتماعية أولا.
بدأنا في رؤية جديدة في التفاهم بيننا حول البديل الوحيد في جو من الضحك والترفيه على النفس .كان فمها الساحر يتفنن في رسم دوائر من الدخان وقد امتهنت ذلك بفنية وإتقان كبيرين . ما زلت أتذكرها تقول :
في الوضع الراهن للأمور ، وإذا كان البشر لا يأخذ من الوقت لإدراك الحقيقية ، فانه يعمل على تحريفها ، ويختار بحزم العداء من اجل الخلاص ، لكن معجزة السماء ستكون فوق كل شيء ، وستكون صدمته عنيفة للعودة إلى المسار الصحيح .
كان اقتناعها يسقط في دائما فخ تلبية حاجاتها الأساسية إلى أقصى مدى . وكانت تبحث دوما عن سعيها إلى جلب بعض السعادة أو تحقيق معجزة من شأنها أن ترفع من مكانتها، وتجد أخيرا الهدوء ، وتنظر إلى الخلود بطمأنينة على الأرض . كانت تعيش الوهم ! لأن لا أحد قبلها عاش هذا النعيم وهذا الخلد الذي تحلم به. بل على العكس تماما، إنها تذوقت مباهج الأرض وبريقها ، وأدركت بعد فوات الأوان تفاهة الأمور الدنيوية . فسألتها عن حالها بعد هذه اللحظات التي تعيشها مع أناس لا هم لهم سوى استغلالها والظفر بنعومة جسدها الطري . فقلت لها :
المؤمن هو الذي يؤمن أن الحياة قصيرة ، وما له في هذا العالم سوى التحضير لحياة أخرى . ويجب عليه أن يعيش فيه تماما كما لو انه سيموت غدا ، و أن الآخرة لا تقدر بثمن . والقران كتاب صريح في فوله لمن فاتته الفرص في إدراك الأمور. فلا تضعين حجاب الجهل بينك وبين هذا الكتاب! وانه يحتوي على العلوم من كل نحو وصوب لاكتشاف أساس كل المعرفة التي اكتسبها جميع العلماء وما ذلك إلا دليل على عظمة الخالق .
ولما جف حلقي من شلال كلامي،تابعت قائلة:

صحيح أن للمجتمعات الإسلامية والعربية إيمانهم وثقافتهم وتراثهم الذي تراكم لديهم على مر القرون. وحصلوا على مجموعة من القيم يحق لهم الدفاع عنها ضد جميع الراغبين في تدسين هويتهم. وغالبا ما تراهم في هذا السياق ، يرفضون بشكل قاطع قيم الآخر، دون أن يعرفوا بمكامن الأمور .
وبعد ارتشاف قهوة المساء..، سألتها عن مشروعها المستقبلي ، قالت :
لا تحزن، سأحسن من وضعي . وسأرضي نفسي..إن لدي رغبة جامحة في داخلي.. تحفزني على رغبات أخرى.. تمكنني من العيش في ذاكرة الآخرين .
استراحت قليلا، وذب الدم في كل مناطق جسدها ، ثم شرعت في جمع لوازمها بعد أن امتلأ صدرها
ريحا ،وتأوهت...قائلة: وماذا عنك أنت ؟
قلت باقتضاب ، وأنا مطأطأ الرأس احمل من الأثقال ما لم يقدر عليه احد :
أنا أتبادل معك وجهات النظر، نعم وجهات نظر وجيزة ودقيقة على شرفة مقهى. وليس لدي ما يكفي لتبني موضوع واسع، وهام، فالكلام عندي الآن لا يستقيم، وقد خانته العبارات...،ثم بدأت أتمتم أملا في التهرب عن سؤالها .
تلك كانت نقطة نهاية حوارنا لما علمت أنها مصرة على المضي قدما، وأنها تسعى بكل إصرار على تخريب نفسها بنفسها . كانت تنظر إلى البحر بنظرات مظلوم يستعطف ظالمه وهي تتأوه من شدة الحسرة على نفسها. فسألتها عما يساورها ويدور في دماغها فردت:
أريد الإبحار إلى العالم الاخر.
كانت الشمس قد أرخت خيوطها واستبدلت لونها بلون احمر أكسته رداءا تلبسه الشمس كل مساء لتضاجع فيه كل يوم أرهقها حبا لساعات طويلة. كان المصطفون جميعهم يلملمون حاجياتهم للعودة في اليوم الموالي أو للذهاب إلى جهة مجهولة مثلي حيث لا عودة إلا السنة الموالية إن هو فلث لبراثن الزمن . كانت صديقتي تبدو أنها ستقضي أواخر أيامها في مراقبة الشواطئ أملا في رجوع مستحيل إلى فردوس الغربة. كانت تشعل النار في كومة عظامي الباردة الوجدان : إنها في حقيقة الأمر امرأة من النساء اللواتي افتقدهن المجتمع المغربي . امرأة بوجه مليح دون مراهم أو مساحيق. امرأة بإمكانها تربية أبنائها أحسن تربية لكن الشارع لفظها وجعلها عرضة للأخطار في بيوت اليأس تبحث بلهفة عن المال في جيوب الآخرين . لكن ما استوعبته منها، كان هو عنادها في مناقشتها وأملها في الحياة. وتبين أني لست مستعدا بما فيه الكفاية لمعاشرة هذا النوع من النساء، وان كن تعشن على استقرار مادي محترم. فقررت العودة إلى بيتي، ابحث في الجوار على زوجة متعلمة تعليما محترما وتثقن لوازم بيتها على أحسن وجه.وقد قضي الأمر بعد حين .
انعنيعة احمد
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
احميدة بغا يتزوج
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» دعواتنا بالشفاء للشاعر الزجال احميدة بلبالي
» مرحبا بالزجال المقتدر الأخ احميدة بلبالي
» ديوان لسان الجمر للزجال المقتدر الأستاذ احميدة بلبالي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مدارات :: مدارات سردية :: مدار القصة-
انتقل الى: