حكاية المُقايسة
أو: قصة عدّول الإسطبلي مع الأميرة دلع
(نُشرت في مجلة «الآداب»، العددان ٧و٨ - أيار ١٩٩١)
هذه قصة أسقطتها الرقابة العباسية ومن بعدها الرقابة البويهية من كتاب «ألف ليلة وليلة»، فتناقلها الناس شفاهًا حتى مشارف الدولة المملوكية. ولكن خواصّ الزمن، وضراوة الأحداث ملأت أذهان الناس وأفرغتها مرّات ومرّات، فدفعت بالحكاية جانبًا وتودّد إليها الإهمال، إلى أن نسيتها المجالس، ولم يعد يعثر بها أحد. ولولا صدفة ماجنة ألقت بها مخطوطةً بين يديّ، لظلّت منسيّة إلى ما بعد يوم الحساب.
ولست أدري من خطّها.. ولماذا، فقد وجدتها في مكان لا يُحسد عليها، وكأنها صورة خليعة في محراب. إذ بينما كنت أراجع عند أحد الأصدقاء مخطوطة جليلة بعنوان «التشهير بسدَنَة التزوير» - وهي تتحدث عن «حمدان قرمط» رحمه الله، وكيف أنه كان يبيح التزوير في كل شيء من أجل استمالة العامّة واللعب عليهم - أقول بينما كنت أراجع هذا المخطوط وجدتها مضطجعة ساكنة كالحرباء، في ركن من أركان الحاشية، وبخط غير متمرّس بالكتابة، أشبه ما يكون بخط عقود الزواج. وظنّي يقول، أن شيخًا ماجنًا من هواة التكسّب بالمُلَح، هو الذي خطّها لكي لا ينساها. فهو يقول في مقدمتها:
«هذه حكاية أصابت بالضرر غير واحد ممّن رواها. وهي لم تُرَ مكتوبة أبدًا، ولعلّني أول - أو على الأصحّ - ثاني من خطَّها بقلم، إذ يقال إنها كانت بعضًا من كتاب «ألف ليلة وليلة»، ثم حجر ولاة الأمر على تداولها، فمُحيت عن الورق، وثبتت في صوامع المُجّان والظرفاء، ولكنها الآن لا تكاد تُسمع إلا عند قلّة من شيوخ الظُّرف. وما كنت لأثبتها لولا ركوني إلى غفلة الأسباب ونُدرة الصدف».
ولا أزعم أني أنقل الحكاية بأسلوب كاتبها، إذ يبدو أنه اختطّها من فمِ عامّيٍّ فأثبت جزءًا منها كما رُويت له، فجاءت مُرتَثّة رخوة منزوعة الأوصال في ذلك الجزء. لذلك لم أحرص منها إلاّ على الحدث دون الأحدوثة، واخترت أن أرويها بحاضرتي أنا، متعمّدًا تغيير الأسلوب حين أشاء حفاظًا على نكهة الحديث:
يحكى أن أحد ملوك النواحي - واسمه «ريّان» - كان يبتدع الظلم ابتداعًا. فكان لا أمان لأحد عنده من رعيّته أو من غيرها، لا يحفظ كرامة ولا مالاً، ولا يصون عرضًا. الدم عنده كالماء، والرعية كالإماء، والرجال كالنساء. وكان إلى هذا مولعًا بالرتب والألقاب ومعاملة الناس على منازلهم، فأكثر من المناصب بين رجال حاشيته، وقسّم العامة إلى طبقات وألزم كل طبقة بزيّ خاص تعدّى القلانس إلى السراويل، وجعل لكل طبقة رزقًا لا تتعدّاه، فمن زاد عن طبقته في هيئة أو مأكل أو طبع نكّل به، وجعل الأجراء والزُّرّاع دونًا في المنزلة والرزق عن الجميع. وكان من جملة ما يقصد بذلك إثارة الفتن بين الطبقات ليثبت له الملك.
وضجّت الرعية بالظلم وعلى رأسهم الأجراء والزرّاع، ومما زاد الطين بلّة ولع الملك بالحرب وإرسال الجيوش لأمر ولغير أمر، فانتكست الأعمال، وتدهورت المنافع، وانتشر الجوع والفاقة الشديدة بين الناس، وكادت الفتنة تقع لولا علم الناس بما جُبل عليه ملكهم من القسوة، وما أعدّه لمثل هذا الأمر من عُدّة ورجال. ولكن الملك، «ريّان».. اشتاق كعادته إلى الحرب فابتدعها ابتداعًا، وزجّ جنوده في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل. وطالت الحرب أكثر مما ظنّ الملك أن تطول، واتّسعت ساحتها. فألقى فيها بكل جيشه بما فيهم حرسه الخاصّ. وانتهز رجل من العامّة اسمه «شعبان» ماضي العزيمة، حَسن التصريف للأمور، هذه الفرصة فأثار الفتنة بين الأجراء أولاً ثم تبعتهم الطبقات الأخرى، وقسم من الجنود الذي فرّوا من المعركة، وأسقطوا الملك «ريّان» ونكّلوا به وبحاشيته تنكيلاً.
واعتلى «شعبان» كرسيّ الملك، وجمع حوله مساعديه ممّن أسهم في الفتنة أكثر من غيره، ثم قال لهم:
- انتهى التغيير وابتدأ التدبير، فأشيروا عليّ!
وتسابق الجماعة إلى الإدلاء برأيهم، فمنهم من أشار بإلغاء الرتب والألقاب والطبقات. ومنهم من رأى الإبقاء عليها مع الزيادة في العدل والتودّد إلى الرعيّة.