- هل صحيح أن ما يكتبه المبدع عبد الله المتقي ، كتابة ضد الكوليستيرول السردي؟.. ويتجلى ذلك في:
- هل هي كتابة حميائية؟..
هذا يدفعنا إلى السؤال العام: لم يكتب عبد الله المتقي؟ ولمن يكتب؟...
إن عبد الله المتقي الشاعر والقاص ، والمبدع ، يعي الإبداع ورسالته ويتجلى ذلك في:
- هوسه لفن القصة القصيرة جدا، وافتتانه بتقنياتها ، وجمالياتها.
- إخلاصه لهذا الفن ، وتفننه فيه.
- رغبته في الابتعاد عن الكوليستيرول السردي، أو كما يسميه الدكتور عبد المالك أشهبون في مقدمة المجموعة(قليلة من الملائكة)، بالكوليستيرولية...
- وعيه بما يتطلبه العصر من سرعة. وما يتطلبه الإنسان المعاصر مما يسمى بالفاست الفود في كل شيء...
- وعيه بنفاذ صبر القارئ في متابعة المطولات، وملله من الإطالة والإطناب...
- وعيه بضرورة إعطاء القارئ/ المتلقي كتابة تساعده على استنطاق النصوص السردية.
- وعيه بضرورة إعطاء القارئ/ المتلقي كتابة تساعده في القبض على المتعة الفنية العميقة.
- وعيه بضرورة جعل القارئ/ المتلقي يشارك مشاركة خلاقة في مساءلة النصوص القصصية ، من خلال فعل القراءة التفاعلية.
- رغبته في عرضه على المتلقي/ القارئ حياة واسعة، عريضة تختصرها قصصه القصيرة جدا...
من هذه الغايات، والتجليات، جاءت (قليل من الملائكة)، حافلة بنصوصها السردية.. مقدمة عالم عبد الله المتقي القصصي، والذي سنحاول ولوجه، للوقوف على هذه الجماليات، والفنيات في كتابته السردية..
(قليل من الملائكة) مجموعة قصصية من الحجم المتوسط، مقاس 20X14سم...تتكون من 80 صفحة، وتتضمن 63 قصة قصيرة جدا...
كل قصة تشغل صفحة مستقلة أو أكثر.. وهي صادرة عن دار التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع...
تتصدر الغلاف لوحة للفنان التشكيلي المغربي سليمان الإدريسي، والتي تعبر عن شكلين آدميين...أو ملائكين... واحد جهة اليسار واقف، والثاني مقابل له جاثم على ركبتيه...والمشهد يبين حالة خضوع ، وامتثال ومبايعة...وأن الواقف يمثل سلطة..وأنهما في مقام محاورة...ولمكانة الواقف ، الثاني كأنه في مقام كلام... جاثما على ركبتيه كما كانت تعرف ذلك البلاطات ، وتقاليد السلطة...وهما أمام ضريح ذي بوابة زرقاء موصودة... الشيء الذي يعطي للصورة مشهدا قدسيا...
والصورة تتلاءم مع العنوان(قليل من الملائكة)، الذي يتصدر الغلاف، وجاء بلون أحمر...وأعلاه اسم المؤلف(عبد الله المتقي) باللون الأبيض...وأسفل الغلاف التحديد الأجناسي، وأيقونة دار النشر...
وعندما نمعن في العنوان، ومدلوله، نجده يتكون من (اسم+ جار ومجرور)...ويجعلنا نتساءل:
- القلة في أي شيء؟..إذا كان الحاضر هو القليل من الملائكة، فما الأكثر حضورا والكثير؟...
- لم لجأ الكاتب إلى هذا العنوان؟...
- لماذا جعله معبرا لنصوصه القصصية، ومعبرا عنها، وحاضنا لها؟..
- هلل فعلا النصوص القصصية ، تتطلب حضور قليل من الملائكة؟.. هل فيها ما يتطلب ذلك؟..
- ما علاقة العنوان (قليل من الملائكة) بنصوص المجموعة؟. هل كل نص يحتوي جماعة من الشياطين، وبعضا من الملائكة؟..
- لم لا يوجد أي نص يحمل نفس عنوان المجموعة، ويتحمل النيابة عن كل نصوصها؟...
هذا يدفعنا إلى استعراض العناوين الداخلية، التي جعلها الكاتب عتبات لنصوصه القصصية...فنجد أنها عناوين تتنوع مكوناتها وتركيبها، وبالتالي نجد أن هناك:
- 25 عنوانا جاء مكونا من كلمة واحدة.
- 31 عنوانا جاء مكونا من كلمتين.
- 07 عناوين ، جاءت مكونة من ثلاث كلمات.
لكن الغريب هو أن غرائبية العنوان يقابلها مضمون النصين الموازيين، واللذين يمكن اعتبارهما استشهادا يلعبان دور المصاحب النصي، ويشكلان عتبة التصدير.. وهما تصديران استهلاليان، وهما يوجهان أفق انتظار القارئ/ المتلقي"وتوسيع أفقه الثقافي في انسجام مع أفق النص" ... وهو تصدير غيري Allographe...
والاستشهاد الأول الذي تصدر قصص المجموعة القصصية، هو للكاتب اليوناني (نيكوس كازانزاكيس)، والثاني للأديب الانجليزي(هنري ميللر)... والسؤال: ما القاسم المشترك بين التصديرين؟...
وما علاقتهما بقصصه القصيرة جدا، رغم أن الكاتبين يعرفان برواياتهما المطولة.. وبسردهما الطويل المبني على الوصف والسرد؟...
هناك أمران يجعلان عبد الله المتقي، يلجأ إلى هذين الاسمين، ليصدر بهما عمله القصصي:
1- صدق التجربة عندهما.
2- جمالية الكتابة لديهما.
3- فنية التصوير عندهما.
4- ثورتهما على الزيف، والظلم، والدونية، وتعرية كل الاختلالات التي تعرفها الحياة الإنسانية.
5- الجنون... فالأول (كازانزاكيس) يرى أن الوسيلة الوحيدة لتغيير العالم هي: الجنون. والثاني يرى في الجنون حبا للإنسانية، وبناء للجمالية، ووسيلة للإبداع، وابتعادا عن التقليدية المقيتة... وبالتالي الجنون عندهما معا.. إبداع ورؤية مخالفة للعالم، والإنسان...
فهل يرى عبد الله المتقي في كتابته، أداة لتعرية الزيف....وإدانة الواقع المتردي.. والتشهير باختلالاته...ووسيلة لرفض التقنيع،والحربائية، والوصولية...وإدانة للعلاقات الزائفة المبنية على الخداع، والخيانة، والمخاتلة؟...
- هل يعتبر كتابته جنونا تستحضر فيه قلة من الملائكة؟..أو تؤيدها قلة من الملائكة.
- هل يعتبر اللغة نوعا من الجنون؟..
صحيح، إن اللغة نوع من الجنون العذب.. فعند الحديث بها يرقص الإنسان فوق جميع الأشياء- كما يقول نيتشه في كتابه (هكذا تكلم زاردشت)- ما دام عبد الله المتقي يرقص بلغته في قصصه فوق الواقع ، ومتاهاته..
وعندما نعود إلى الاشتقاق اللغوي للجذر(ج.ن.ن)، نجده يعني: الستر والخفاء..فهل كتابته ستر وخفاء لكل ما هو جميل ، وعفيف.. ومميز؟.. الشيء الذي يجعل حضور الملائكة قليلا؟... أم أنه يعتبر كتابته جنونا لأن قصصه صغيرة وعاجزة عن الإطالة والسرد الزائد؟..أم أنها جنون.. لأنها تفقد كثيرا من صفات السرد الفني، والوضوح اللازم..وتخفي أشياء وأشياء، لا يتم الوصول إليها إلا بالتمحيص، والنظر وراء السطور؟...
- هل تعتبر كتابته القصصية جنونا لأنها تتجاوز الواقع، وترصد اختلالاته؟..
I- الموضوعات التي تنبني عليها المجموعة القصصية:
تضم المجموعة القصصية (قليل من الملائكة)63 قصة قصيرة جدا.. وهي نصوص تفاوتت عناوينها وموضوعاتها، وطرائقها السردية.
موضوعاتها متنوعة، بعضها يمتح من الواقع ومفارقاته...تنبش من الذاتي واليومي والهامشي، ومن التيمات الأساسية التي تستند عليها المجموعة القصصية، نجد:
1- الجنون: إن الجنون صورة عن العالم الآخر.. يقع في جهة والعقل في جهة أخرى مختلفة تماما.. وكما يقول ميشيل فوكو: لكل إنسان عاقل فيه حبة جنون.
صحيح، أن الجنون خطايا ضد الجسد وأخطاء ضد العقل.. ويعتبره فوكو بأنه الدرب القصير المؤدي إلى الحكمة. وبأن المجنون وجه سري من وجوه الله...
ويؤكد بأن الجنون قطيعة مطلقة في العمل ، بوصفه يشكل اللحظة المكونة لاندثارها، ويؤسس في الزمن حقيقة العمل.. إنه يرسم حدوده الخارجية وخط الانهيار ..إنه بروفيل ضد الفراغ ...
والجنون يغري، لأنه معرفة...إنه معرفة لأن هذه الصور العبثية كلها تمثل في الواقع عناصر معرفة صعبة، ومنغلقة وباطنية(فوكو)...والمجنون، مصدر للحقيقة، والحكمة، ونقد الوضع السياسي القاتم...
والسؤال المطروح، هو: كيف تعاملت كتابة عبد الله المتقي مع ظاهرة الجنون؟.. وكيف وظفه في قصصه القصيرة جدا؟...
إن عبد الله المتقي في مجموعته القصصية(قليل من الملائكة) يوظف ثمة الجنون، توظيفا دلاليا ورمزيا.. من أجل التعبير النقدي عن واقع قيمي واجتماعي سائد، ينبغي تغييره. فهو يوظف الجنون كملمح ماساتي ونقدي، وساخري..والذي من خلال هذا الملمح نتبين هوية الإنسان المغربي المعاصر... في مجتمع يعرف الكثير من التحولات والتغيرات.. في شتى المجالات والميادين... ساخرا من أولئك الأدعياء: أدعياء الحداثة والتحديث، والذين لا يمارسون في واقع الحال سوى الإقصاء والتهميش، والهيمنة...وتقديم المصلحة الخاصة على العامة...
يقول في قصته القصيرة جدا (أعور):
"مخبول في باحة الضريح، يفلي عانته بأصابع قذرة.
طفل ، أصابعه كما لو أنها أحذية تعدو.
طفل: ثان، بحثا عن أرنب أعور.
بنت: في غابة قاتمة.
يحكم المخبول سرواله، و... يدخل قبة الضريح تاركا خلفه كثيرا من الضحك"...
في هذه القصة يعطينا صورة عن الجنون، والحمق، والخبل... وصورة مقززة عن المجنون الذي خرج في هذه المشاهد عن الذوق العام، وما يرتضيه العرف...
فهو لا يجد حرجا في التعري، وفلي عانته من القمل الذي علق بزغبها...ثم نستشف فيها أمورثلاثة يسخر الكاتب المتقي منها:
- الأول: ارتباط المجانين بأماكن خاصة.. كالأضرحة والزوايا...وفي الثقافة الشعبية ارتباط بعض الأضرحة بالجنون والمجانين كضريح بويا عمر، يعتب عندهم نوعا من الكرامة ، والقدسية...
والثاني: ازدراء المجتمع من المجانين ومظاهر الجنون.. وتمثل ذلك جملته(تاركا خلفه كثيرا من الضحك)..
والثالث:هو التنديد بوجود هؤلاء المجانين في الساحة العامة، في المجتمع...ونستشف تنديده ومطالبته الخفية بأن هؤلاء وجودهم يجب أن يكون في مؤسسات خاصة ، يلقون فيها العناية اللازمة... كما أن هؤلاء الأطفال وجودهم الضروري يجب أن يكون في المؤسسات التعليمية والمعاهد...
والسؤال المطروح، هو: لماذا يركز عبد الله المتقي على هذه الأمور ؟...
الأمر بكل بساطة ، هو أن المجنون يقصي من اعتباراته كل الانتماء للثقافي السائد...وإقصاء لكل مؤسساته، ومعاييره ومقاييسه...ويلتجئ إلى الأضرحة وقبور الأولياء والصالحين، والزوايا...لأنه لا يجد فيها أداة وآليات الرقابة، والردع.. كما أنه في اعتقاده ، هي مكان للتعقل والاستقامة...
وفي قصته(تطهير) والتي يقول فيها:
"1- رجل عار ، يعدو في الشارع العمومي.
2- في يده سكين يلمع.
3- تعطلت لغة المرور.
4- وقف الرجل بغتة.
5- شرع في تقطيع أذنيه ، أنفه، و...
6- في المشفى ، قال الرجل للممرضة: " كنت أنقي وجهي من الأقنعة"...
في هذه القصة القصيرة جدا، نكتشف كيف يدفع الجنون بالشخص إلى اعتبار أنه الوحيد الذي يدرك الحقيقة..
إنها تقدم لنا صورة لرجل عار تماما، يعدو في الشارع العام، يحمل سكينا.. الكل مندهش لهذا المنظر.. الكل توقف ليرى المشهد إلى آخره.. أمام ذهول المارة، والناس... بدأ يقطع أجزاء من وجهه (أذنيه وانفه وأشياء أخرى)، لأنه يرى أن إزالة هذه الأعضاء ، ستجعله في عالم يقيني، خارج كل زيف... وأنه بحمله لهذه الأعضاء ، فإنه مسجون داخل كم هائل من الأقنعة، أقنعة تكبت حريته، وتجعله يفقد كل إرساء.. وأنها تجعل منه كائنا سيزيفيا لا يتجدد...وأنها تجعل منه كذلك كائنا متعدد الأوجه متعدد الأوجه.. لذا هذه الأقنعة التي يراها تغطي ملامح وجهه، هي نوع من السويداء تدفع به إلى الوحدة والعزلة، والفصام، والشعور بالغربة....ولذا قطعه لهذه الأعضاء هو اعتبار منهم بأنها ستجعله ينتمي إلى الحقيقة،والصفاء...وحضارية المجتمع الكامل... وبالتالي يصبح جنونه نوعا من الانتقال من عالم السفاهة ، والمروق إلى عالم الصفاء، والنورانية...
وفي قصته(مشهد سريالي)...يقدم لنا الكاتب عبد الله المتقي صورة أخرى للجنون، حين يدفع التوتر والجنون شخصا إلى بتر عضوه الذكري...إنه نوع من الاحتجاج، ونوع من الرفض لواقع لا يريده أن يستمر.. واقع ينبني على الخيانة والخديعة، والمؤتمرات... والفساد.. لذا يريد بهذا الفعل أن يتبرأ من شهوانية الجسد، وشبقية الواقع...
في هذه المشاهد ، نجد أن الجنون يمس فئة راشدة.. لكن في قصته القصيرة جدا(لوحة) نجد مشهدا للجنون الطفولي ، الذي لا يختلف عن أحلام اليقظة عند الأطفال.. حين تتحول رغبات الطفل ، وحاجاته ونوازعه ، واستيهاماته في أعين الراشد جنونا...وخروجا عن المألوف.. وتتعارض مع القيم والأعراف العامة...فتقابل بالتصدير ، والقمع والإقصاء، والكبت.. وهذا يتولد عنه نوع من النكوص، والارتداد العاطفي، والنفسي، والفطام الإجباري لهذه الميول...والدهان.. ثم الانتحار...
يقول عبد الله المتقي في هذه القصة(لوحة):"أختي ترسم بالفحم طفلا على الرصيف، وتنام فوقه...
يقبلها الطفل بشفتين مرتعشتين..
تفرح وتلذذ كثيرا في الخيال...
وتنتهي الحكاية هكذا: تصفع أمي وجهها...
تصرخ..
تضرب فخديها، وتنتزع أختي من ضفائرها بقسوة"...
إن الأم ترى في فعل ابنتها نوعا من الجنون.. لذا قابلته بسلوكات عدوانية( الصفع- الصراخ- ضرب الفخدين- الجر من الضفائر- القسوة)...
إنها ترى في عملها هذا نوعا من التجريم، الذي يجب أن يقابل بقسوة، ويقمع في أوانه.. حتى لا يتكرر..وينطبع كسلوك ..دونما احترام لخصوصيات الطفولة، أو اعتبارات للخيال، ونمو العواطف، وتطورها.. أو مرور الطفلة من مرحلة من مراحل النمو...
إنها مرحلة لعب الأدوار، حيث إن الطفلة تلعب دور الزوجة والأم...أو تتمثل دور ممثلة تأخذها نموذجا الأمثل...ويسعفها في ذك خيالها الذي يحقق من خلال هذا الاستيهام، وحلم اليقظة حاجاتها النفسية، ويشبعها... وهذا كله يساهم في توازنها النفسي.. لكن الأم ربما الجاهلة ، ترى في هذا الفعل عملا لا سويا.. يجب أن يجابه بالقمع...
2- الحب: لم تخل المجموعة القصصية (قليل من الملائكة) من تيمة الحب.. لا لتتحدث عن الحب في شبقيته،وفي غواياته... ولكن لتتحدث عن الحب كقيمة إنسانية... وكوجدان يجعل المرء يشعر بالحياة وجمالها...
ففي قصته ( عاشق الموتى)، والتي قول فيها:
" كان كالعاشق...نظر في المرآة ، تعطر ، وفي الطريق كان يفكر في الكلمات التي سيقولها.. كان سريع الخطوة... وفي الموعد تماما كان أمام مدخل المقبرة في انتظارها...
مرت نصف ساعة ولم تأت...
ساعة كاملة ولم تأت...
حينها أدرك أنها حائض، فالموتى لا تأخرون "..
في هذه القصة القصيرة جدا.. نستنبط منها الوفاء بالعهد...حيث يجد البطل نفسه ملزما بعهد اتخذه على نفسه، وهو الذهاب إلى المقبرة عله يلاقي روح حبيبته...إنه نوع من الاستيهام، ونوع من الشبقية والولع.. ولحبه الشديد يجد نفسه متلهفا على ملاقاة حبيبه، ولو عن طريق البانانورمال، وعن طريق التجاذب الروحي... وهذا من فرط حبه، وشوقه وحنينه...
3- الخيانة والتنكر:كثير من قصصه القصيرة جدا، جاءت متضمنة تيمة الخيانة والغدر.. وفيها نشتم إدانة الكاتب لهذه النواقص المشينة...منبها إلى تفشيها في مجتمعنا المعاصر الذي غلبت عيه الماديات... لظروف وأسباب يعلمها الخاص والعام...
ففي قصته (رائحة الحب)، والتي يقول فيها:"في عربة القطار، كانت هناك امرأة ، أود أن أقول
في عربة القطار كان هناك رجل أيضا)...
المرأة تمسح حبات عرق شفاف ، والرجل رأسه ثقيلة كالبيضة المتعفنة، لكن لا أملك أن أكون متأكدا(في عربة القطار ، لم تكن هناك سوى امرأة طاعنة في الحزن، رأسها ثقيلة من السهر مع رجل ما تزال رائحته في ملابسها)...
وفي قصته (لذة ناسفة) يقول فيها:"تعرف على عاهرة بلقاء...
بعد قنينتين من النبيذ ، بدأ معها مشوار لعب ملتهب.. نبتت على حشفته نبتة حمراء، واختفت..
تصور ما يشبه العش في دماغه.. لم يعد يتحكم في لعابه.. انتهى وانتهت القصة"...
ففي هاتين القصتين نجد إدانة عبد الله المتقي للخيانة الزوجية... والدعارة...والمجون..ويبين أن الخيانة، والزنا لهما عواقب وخيمة...صحيا وأخلاقيا، ونفسيا... فالكاتب يصور لنا جلسة داعرة، ماجنة.. تتحول من جلسة شرب وأنس، وملاعبة إلى خطيئة بينة .. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد.. بل يتطور إلى ما لا تحمد عقباه...فالرجل أصيب بداء الزهري(نبتت على حشفته نبتة حمراء).. ونعرف مخاطر الزهري على الصحة عامة والجهاز العصبي خاصة...فكانت النتيجة إصابته بالشلل (لم يعد يتحكم في لعابه).. ثم كان الموت(انتهى)،وبذلك انتهت قصته بنهايته، وانقطع عن الدنيا.. يحمل معه أوزاره,, وخطاياه...
من خلال هاتين القصتين، وغيرهما، نتبين الجانب الأخلاقي، والإصلاحي، والنقدي في كتابة عبد الله المتقي... فهو لا يستعرض هذه الصور هكذا... بل يقوم بتعرية الواقع،وفضح مستور المجتمع...وتبيان خلله ونواقصه، وما يشين العلاقة الإنسانية، والزوجية...وما يسود المجتمع من تدن أخلاقي، وفساد اجتماعي،وانحلال خلقي.. وتدهور للقيم، وبالتالي المجتمع الذي تذهب أخلاقه يموت.. وهذا قد قاله شوقي قديما :
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت**** إن هم ذهبت أخلاقهم ، ذهبوا
وهندما تسود مثل هذه المظاهر مجتمعا ما ، فإن مآله التدهور، وانتشار الأمراض،وبالتالي يكون الموت...
4- الموت: توظيف تيمة الموت في الكتابة القصصية يكاد يكون أمرا شائعا بين كثير من كتاب القصة القصيرة جدا...
وعبد الله المتقي اهتم بهذه الموضوعة في مجموعته القصصية(قليل من الملائكة).. وترصدها في كثير من المواقف، والمشاهد الحياتية.. وجسد في كتابته مواقف العدم والوجود.. والحضور والغياب...والموت الإجباري القهري، القائم على المرض، أو الانتحار، كما في قصتيه القصيرتين جدا( مجرد انتحار- ذات)...
- فهل كتابته عن الموت هي في واقعها احتفاء بالموت؟...
- هل كتابته عن الموت، رؤية خاصة للموت ، واعتبارها مخلصة من الدنيا ومتاعبها؟..
- هل كتابته عن الموت، نوع من الجنون الأدبي والفني؟...
- هل الموت يعيد الاعتبار للإنسان؟...ويعيد قيمته؟..
- هل الموت يخرج الإنسان من النسيان والتهميش؟..
- هل الموت حتمية تحد من غرور الإنسان؟... وتحد من أنانيته المفرطة بسبب الدمار والحروب التي يكون سببا مباشرا لها؟...
- هل الموت ن تخلص الإنسان من شعوره بالضعف والقهر والفشل.... والعجز والشيخوخة؟..
يقول في قصته (غاز):"امرأة ورجل مهملان في الدش منذ ثلاث ساعات، ينتظران سيارة إسعاف ن وثلاجة موتى...
جثتان وسط أشيائهما المبعثرة: فرشاة أسنان، مشط بلاستيكي، قنينة شمبوان، حبيبات غاسول... وماذا أيضا؟...(تسربت رائحة الغاز إلى باقي الغرف)"...
من خلال هذه القصة يقدم لنا الكاتب عبد الله المتقين مشهدا دراميان وهو موت زوجين في الدش بواسطة تسرب غاز البيطان... وهو من خلال هذا المشهد ينبه إلى خطر فادح بدا ينتشر في المجتمع المغربي، وهو الموت اختناقا بالغاز في الحمام جراء استعمال كثير من الأسر المغربية لسخان الماء الصيني الرخيص الثمن ، والذي أودى بحياة الكثيرين...
ثم نجد في هذه القصة نوعا من السخرية السوداء.. ويتجلى ذلك في جملته(منذ ثلاث ساعات ينتظران سيارة إسعاف)...فعملية الإنقاذ كانت منعدمة... وهذا نوع من الإهمال.. والتسيب،، كما تبين كم هو رخيص الإنسان في العالم الثالثي المتخلف...
ولم يكن الموت قاسيا، وبئيسا عندما يكون السبب هو الانتحار.. حيث يعمد المرء إلى وضع حد لحياته لظروف نفسية أو اجتماعية أو عاطفية أو اقتصادية .. ينتج عنها ضغط نفسي، تنهار بسببه المعنويات...
ففي قصته (ذات)، والتي يقول فيها: "ذات شتاء قديم ، ماتت زوجته بأنفلونزا الطيور...
ذات ربيع أزرق، عاد إلى بيته في الخامسة صباحا وبعض الزمان...
ذات صيف حارق، رمى بنفسه من النافذة في الشارع الخالي...
ذات خريف حرين، جلس قريبا من جثته يعوي كما ذئب جائع...).
فالقصة تقدم لنا حالة اجتماعية... نرى من خلالها زوجا لم يقو على فراق زوجته التي توفت جراء إصابتها بأنفلونزا الطيور.. وبعد سنة من وفاتها وضع حدا لحياته...بأن رمى نفسه من النافذة...
وفي قصته (مجرد انتحار)، والتي يقول فيها:"غرفة مثلجة...
قطة تنام في فروها...
قلم جاف وعاطل عن الكتابة...
وجثة تتدلى من السقف)...
هنا يقدم لنا مشهدا أو صورا لغرفة نتكشف محتوياتها... لنجد في إحدى زواياها جثة رجل شنق نفسه...
ويكون الموت حتميا عندما يصل الإنسان إلى خريف العمر... ساعتها لا ينتظر إلا ساعة الرحيل.. يجلس هذا الإنسان يتملى شريط حياته، ومحطات عمره... كما في القصة القصيرة جدا (مكيدة)، والتي تقول:
"الأشجار حافية من العصافير.. الممرات تصطبغ بأوراق صفراء. فقط رجل متقاعد يتأمل خريف الحديقة، ويتحايل على الموت بعصافير شاحبة، وبأطفال يتقافزون فوق العشب كما السناجب"...
كما نجد عبد الله المتقي يندد بالتقتيل الجماعي.. والممنهج.. والمتمثل في الغزو والحروب، الإبادية.. التي تفني الآلاف.. كما يقول في قصته (حرب):
"1- المتاريس فارغة تماما... سوى قبعات وبنادق مبعثرة، تراقب الموت بحذر...
2- جثت مجهولة الهوية...
3- لا وقت الآن... لدفن الموتى ، إنهم كثر"..
من خلال هذه التيمة نجد الطرح الاجتماعي والفلسفي للأديب عبد اله المتقي اتجاه الموت حاضرا... وبقوة... فنستشف من خلال منظوره للموت أن الإنسان جراء أنانيته الزائدة.. فإنه أحيانا يريد خرق القدر، والمكتوب من خلال اتباع الأهواء.. وغطرسة النفس أو اضطرابها... وكلما تقدم في الحضارة، إلا واختلق وسائل الدمار والموت... فالانتحار والحروب آليات تدميرية اخترعها الإنسان محاولة منه في التحكم في الوجود، ولأجل مصلحة خاصة كيفما كان نوعها...
5- العلاقات وسيادة الصمت: لا تخلو المجموعة القصصية (قليل من الملائكة) من تقديم صور كثيرة عن العلاقة الإنسانية... والتي افتقدت فيها الحميمية.. والألفة والمحبة..ولم يستطع الإنسان في زمن العولمة هاته أن يعيد بعض المحبة التي ضاعت، أو أن يحد شيئا ما من الفراغ العاطفي الذي بدا يصبغ الحياة المعاصرة... أو أن يكسر الصمت الذي بدأ يغلف الروح الإنسانية.. ويسكن أنينها.. ويرتق تمزقاتها...
صدمة كبيرة حين تكتشف المرأة خيانة وزجها..إذ تجد في جيب معطفه ذات مساء منديله ملطخا بحمر الشفاه.. هذا ما تقوله قصة ( خيانة):
"1- في غرفة النوم ، فتحت دولاب الملابس على معطفه الكاكي، انتابها الفضول .. وكاد نبضها يتوقف ( في جيب المعطف عثرت على قبلة حمراء بمنديله الأصفر)...
لكن المفارقة العجيبة ، والتي ترفع من إدهاش المتلقي، وتصدمه.. هي أن الزوج هو ايضا ، وبالمصادفة يكتشف خيانة زوجته، من خلال تصفح خزانة رسائل محمولها...
"2- في قاعة الانتظار ، ودفعا للضجر ، فتح حقيبتها الكاكية، وكادت تفقئ عينيه رسائل محمولها التالية: ( أحبك .. مجنونان نحن... نلتقي بعد الإجهاض)...
الصدمة ترتفع حدتها في هذا المقطع، حيث نتبين أن سلوك الطرفين قتل كل بذرة الحب بينهما...وان كل تواد .. وكل تواصل مات وانتهى... مما دفع المرأة إلى القيام بعملية إجهاض للتخلص من أي ارتباط يربطها بقوة بهذا الرجل الخائن.. ما دام أن كل عواطفها وهبتها لآخر...وهنا يتعالى السؤال:
- هل هذا نتيجة سوء الاختيار؟.. وسوء توافق اجتماعي وثقافي، بين الزوجين؟... وهل هو ردة فعل انتقامية من الطرفين؟..
ونتوقف مع كاتبنا إلى علاقة إنسانية تنتمي إلى تراثنا العربي الرومانسي. وهي العلاقة التي خلدها الأدب العربي... علاقة قيس وليلى...
ونعرف مدى المحبة التي كانت بين الطرفين، وكيف نشأت بينهما هذه المواجد الرقيقة...لكن كان مصيرها الجنون ، والموت...
هنا نقف إلى أنانية العاشق والمحب...فقيس يعرف أنه بنسيبهن وتغزله في محبوبته ليلى، يوقع المنع الأبدي للوصول إلى مبتغاه وهو الوصال ، والفوز بمحبوبته... ويعرف أن الشعر في المحبوبة هو انتهاء العلاقة كما كان معروفا في البادية العربية...لكن تعلونا الدهشة حين نجد أن غضب ليلى ليس النسيب والغزل، وقول الشعر فيها...ولكن حين شبهها قيس بالقمر، استشاطت غضبا لان القمر لم يبق كما كان بكرا...لقد دنسته قدم امسترونغ حين نزل على سطح القمر...ولذا واقع الحال تبين لنا أن عذرية المنطقة العربية قد عفرتها قدم المحتل الأمريكي وغزوه للأراضي العربية بكل وجوه الغزو...
وتشتد الغرابة حينما تتحول علاقة الزواج ، ورابطة الألفة والمحبة والسكينة إلى حقد ، وضغينة.. ونقلب التواد ، والسكينة ، والسكن إلى رغبة في الانتقام، والقتل.. فيتمنى كل واحد التخلص من صاحبه.. ويتخيل انه يقتلها مرات ومرات في دواخله ، وخياله...
6- الغربة:ويهتم عبد الله المتقي بموضوعة الغربة، والشعور بالوحدة والفراغ.. والإقصاء، والتهميش...
هذا الشعور الذي تتولد عنه الرغبة في الانطواء، والانزواء..والانغماس في حسرة قاتلة، وصمت مطبق ثقيل...
لقد دخلت الحياة العامة التقانة... ومست العلاقات الإنسانية.. وغيرت النظرة إلى الآخر..وأصبح الاهتمام بالآلة أكثر من الإنسان.. ففي قصته (play)، نقرأ التالي:
"ثمة أحفاد في فسحة مضيئة ، يتابعون بعشق شريطا للرسوم المتحركة...
ثمة جدة في زاوية معتمة، تفرك حكاياتها بالتيد والصابون حتى لا تتعفن...
كل شيء كان واضحا أمامه تماما.. هو نفسه من يصنع هذه الومضة.. ظل يكتب ، ويكتب و... إلا أن تمكن من هذا السطر: ثمة جدة مفقوسة سبب لها playstationخريفا غامضا"...
لقد كانت الجدة وسيلة للفرجة في زان ولى... سادت فيه الحكاية والمشافهة والحكي والسمر.. حيث كانت الأطفال يتحلقون حول جدتهم تحكي لهم عن هينة ورأس الغول.. تحكي لهم حكايات يمتزج فيها الواقع بالخيال...ومن خلاله يجنح الطفل إلى عوالمه الغريبة... يعيش فيها بخياله وأحلامه... لكن زمن الحكواتي انتهى.. فقد سبت وسائل فرجوية أخرى أكثر تشويقا وإثارة ، البساط من تحت الجدة...ولم يعد أحد يسمع أو يهتم بحكيها... فقد غزا ماوس البيوت، والبوكيمون.. وملأت الرسوم المتحركة وقت الأطفال... والأنتريت، والبلايسيشون...التي استطاعت ان تشد إليها الطفل لساعات لما تقدمه له من ألعاب مثيرة...
أما الجدة فقد بقيت في زاويتها تداعب سبحتها.. تنتظر من يقدم إليها لتحكي له حكاياتها البائتة.. والحامضة... والمتقادمة...هذا ما دفع بها إلى الانزواء، والصمت.. وطالها النسيان، والتهميش ...
وفي قصته ( رحيل العمر)يقول فيها:
"ثمة ما يشبه الهيكل العظمي في زاوية معتمة...
ثمة أحفاد يتابعون بشغف شريطا للرسوم المتحركة.
وثمة جدة " مفقوسة" سبب لها النمر المقنع خريفا غامضا"...
لقد كانت هذه الجدة تجد الدفء في هذه اللمة.. وتجد الأنس ، والفرحة وهي تحكي قصصها وحكاياتها لجماعة الأطفال.. لكن اليوم كل شيء تغير...فالأطفال يتابعون حكايات بالصوت والصورة على شاشة التلفزة... وهذا ما سبب للجدة نوعا من ضمور دورها الفرجوي.. ودورها الحكواتي.. ودورها في التنشئة الاجتماعية... ما دام هذا الطفل قد وجد ضالته ن في آلة ذات جاذبية، وتشويق، وإثارة وفرجة...
وأمام هذه التقانة تكبر غربة الجدة في هذا العالم الطفولي.. وتجد أن مكانها لم يعد ذا تأثير... وبالتالي تنغمس في صمت مطبق، وانطواء مهول...
ويمتد الشعور بالغربة عندما يحس الإنسان أنه وحيد في هذه الدنيا..لا أنيس ، ولا رفيق... الشيء الذي يولد في داخله نوعا من النكوص ، والانطواء...
هذا ما تحس به المرأة عندما يضيع منها شبابها.. وترى أن قطار الزواج فاتها.. وضربت عليها العنوسة بأطنابها...
تتألم كلما تملت جسدها...تتلمس فيه الجمال الضائع.. ولمسة الرجل الغائبة.. فتغوص في مرارة ن وحسرة ، وأسف قاتل.. وتصبح حياتها غربة، وصمتا.. وشعورا بالخيبة.. لا تجد السلوان إلا في مصاحبة قط تبدد به وحشتها، وتخرق به ومعه صمتها...
هذا نلاحظه في قصة(اشتعال الماء)، حيث نقرأ:
"لا أحد في الشقة سوى سيدة في الأربعين وبعض الشهور، تمسح على ظهر قط رمادي...كانت تتفرج على فيلم أمريكي يحكي عن الغياب.. بغتة سقط الغائب فيها كما الومضة، حينها توهجت السيدة.. دخلت غرفة نومها. أغلقت الباب والنافذة بإحكام، تنصلت من ملابسها، وقفت أمام المرآة ، تفحصت عريها بإثارة، ثم ريثما انتبهت أن قطها الرمادي ينكمش، ويتأهب للقفز على جسدها الشهي"....
7- الاستيهام والحلم: اهتم عبد الله المتقي بالجانب النفسي في قصصه.. ولذا ضمن بعضها موضوعة الاستيهام والحلم...
والاستيهام هو الرضوخ لفعل الوهم، والاستسلام لعالمه وطلب المزيد منه... والوهم - كما يقول الدكتور الأمين العمراني:"الاستيهام له علاقة وثيقة بالذهن البشري والتركيبة النفسية للإنسان..إذ يتمرد بموقف ذهن الإنسان إزاء كل ما هو غريب وعجيب، وغير مألوف وخارق للقواعد التي تضبط الظواهر على اختلاف أنواعها" ...
ويرتبط الاستيهام – كما يقول الدكتور العمراني- بالإنسان ارتباطا جدليا ، يحيل إلى تداخل الحقيقة والوهم، الواقع والحلم، الطبيعة وما وراء الطبيعة في ذهن الإنسان ونفسيته...وهو تداخل ينعكس على نمط سلوك الإنسان ، ويحدد مواقفه إزاء الذات والوجود والآخرين..
وقد وظف الأديب عبد الله المتقي ، الاستيهام والحلم في بعض قصصه القصيرة جدا في مجموعته (قليل من الملائكة) ، كما في قصته (أونامير)، والتي يقول فيها:
"يرى في النوم ، بابا تفتح على جده، محفوفا بسحابة من الفراشات الملونة.
يرى في النوم ، جده بلحيته المصبوغة ن يحكي للأطفال منتشيا عن أونامير..
ويرى في النوم، أطفالا مندهشين من هذه القصة القصيرة جدا"...
إنه نوع من الحلم اللذيذ .. والاستيهام العجائبي.. فالسارد يؤكد أن البطل يحلم بجده في عالم ملائكي،غرائبي ، تحفه الفراشات الملونة... وهو يحكي للأطفال قصة حمو اونمير الأمازيغي، وصراعه مع خوالق العوالم الخفية...
كما رأى النقيض للحلم السابق، وهو أن هؤلاء الأطفال أعجبوا بالقصة القصيرة جدا، لما تحمله من فنيات وجماليات لم يجدوها في حكي الجد.. المبني على الوصف والإطالة، والتمطيط... وغالبا ما لا تنتهي هذه الحكاية لأن النعاس يكون قد أطبق على جفونهم...
إنه حلم استشرافي من خلاله نتبين تطور القصة القصيرة جدان ونقف على مراحلها التي مرت منها.. ومرورها من المشافهة والحكاية، والقصة والقصة القصيرة، ثم القصيرة جدا...
وفي قصته(ذاكرة موت)ن والتي قول فيها:
"الليلة الماضية، نزع صورته عن الحائط...
في صباح الغد، جمع أشياءه في حقيبة سوداء، وقال لزوجته مودعا...ا
- اقرئي كل سبت صفحة الوفيات"...
إن القصة تنبني على نوع من الاستيهام حيث يشعر البطل بأن نهايته اقتربت.فيجمع أغراضه وأشياءه في حقيبة سوداء، ويطلب من زوجته أن تقرأ صفحة الوفيات، لترى خبر وفاته...إنه نوع من الاستشعار البعيد للموت...كما انه نوع من السوداوية، واليأس الذي يجعل الإنسان يشعر بأنه أصبح زائدا في هذه الدنيا.. وأن لا مكان له هنا... ويحس أن عليه الرحيل,, ومغادرة هذا العالم... وهذا منتهى الانهزامية، والإحباط...
ويتحول الحلم إلى شقاء، ومعاناة نفسية، حين يهيم البطل في أحلام وأوهام.. واستيهامات. تجعله يتخيل نفسه تحت سماء ماطرة.. لكنه في الصباح يكتشف نفسه قد تبول وبلل فراشه.. وهذا يعرضه إلى السخرية والاستهزاء...وربما إلى العقاب... وهنا تتزلزل نفسيته، وتضطرب معنوياته.. ويختل توازنه النفسي، فيغرق في الانتكاس، والاكتئاب، والانطواء، والعزلة.. وهذا ما ركزت عليه قصة(فيضان):
عصفور:
"حلم أنه يعدو تحت سماء ملبدة بغيوم راعدة..
ماء:
سقط المطر عنيفا.. وتبللت ملابسه..
متانة:
في الصباح ، فوجئ الطفل بسرواله غارقا في البول."
كما أن الحلم يجعل هذا المحارب القديم يهيم في عوالم من الخيال... يسترجع ذكرياتهن ومشاركته في الجيش الفرنسي، في حروب فرنسا ضد النازية،بأوربا ، وضد الفيتكونغ في الهند الصينية... فيرتفع ألمه حين يجد انه خرج من هذه الحرب بمعاش ضئيل، ورجل حديدية، وعين واحدة.. ونفس مكسورة... وهذا يمثل واقعه الأليم.. الذي يجعله ينغمس في حسرة عميقة...
إلى جانب واقعه الأليم، فمن خلا الحلم يسترجع ذكرياته وواقعه ، ويتحول الحلم أيضا إلى أداة للاستيهام والعيش في الوهم الحالم.. حيث يحلم في عزلته أنه كان يجب أن يمنح إقامة باذخة في فندق باذخ...يدخن سيجارة كوبية، وينعش جسده بماء مسبح رائع.. ويبلل حنجرته بنبيذ أحمر .. وامرأة تدلك قصعة ظهره.. لكن يصدمه واقع حاله عندما ينظر إلى الحالة التي خرج بها من تجنيده بالجيش الفرنسي، وهذا لا يزيده إلا انغماسا في الصمت، والحسرة.. واليأس، والخذلان.. كما في قصة ( طباق الحلم)...
8- السوداوية:إنها سمة لصيقة بنفسية السارد/ البطل،ووجدانه.. وتحدد رؤيته للعالم الخارجي.. وتلونها سوداوية قاتمة أساسها السخط، والامتعاض.. وهي تحول نفسيته إلى نفسية مكتئبة ، مريضة... ومتفككة... كما تتحول في كتابات عبد الله المتقي إلى رفض الواقع، وتسليط الضوء على مواقع القبح فيه، ومواطن الخلل...
وهذه السوداوية ، لا يروم منها عبد الله المتقي وظيفة تطهيرية كما تنادي بذلك الأرسطية.. ولكنه يروم منها الإفصاح عن المعاناة،والتصريح بفداحة الواقع... والبوح بسخافته ورداءته، وعفونته...
كما تروم منها أيضا ولو بطريقة ضمنية، النقد الاجتماعي، أي نقد المجتمع، وما يسود فيه من ترد وتفسخ، وانحلال، واندحار قيم، وتهميش لكل شيء جميل...
وهذه السوداوية ن تدفع بأبطال قصصه إلى النكوص، أو الهروب ، أو العزلة، والانطواء.. وأحيانا إلى الانتحار... كما في قصة( قصة(غير) منسية)، والمهداة إلى روح الأديبة المغربية الراحلة(مليكة مستظرف)، والتي تقول:
"قبعة بالمشجب تذرف دمعا ناشفا...
معطف أسود يرتعش من البرد...
كرسي يجلس القرفصاء...
علبة أنسولين...
قطة رمادية تتفرج في ذهول...
بضعة مسودات قصصية، وجثة غارقة في الموت"...
وكذلك نجد هذه السوداوية في قصة (حياتي)، و(مجرد انتحار)، و(قبعتان)، وغيرها من القصص القصيرة جدا...
9- الوعي الشقي للشخوص: نصبو من خلال الوعي الشقي إلى التعبير عن حالة نفسية، وشعورية مأزومة لدى فئات اجتماعية معينة.. يمثلها ويجسدها البطل، جراء الإحباط الذي اعتور طموحاته الطبقية.. كما يؤكد ذلك لوسيان غولدمان...
ومن خلال هذا الوعي الشقي، نستشف الموقف العدمي ، والعبثي للشخوص، ورؤيتهم السلبية للعالم ، واليائسة من الحياة...
وفي قصص عبد الله المتقي، مثل قصته( تطهير) و(ذات)و(طين)، و(ذاكرة موت)، و(الشيخ والبحر)، و(في انتظار غودو)،و(لعبة المخصي)، والتي تقول:
"حين تقمص دور بروميثيوس على هامش حفل آخر السنة، ربت أستاذ الإخراج على كتفيه بعد إسدال الستار، ثم أهداه درعا تذكاريا وعلبة كاراميلا.. لكنه بعد حفل التخرج ، لم يجد خشبة تتسع للعبه، فتقمص دور سيزيف، وانخرط في تفاصيل الحياة"...
وفيها نجد الإحباط الذي اعتور طموحات البطل بعد تخرجه،حينما لم يجد مسرحا ينضوي إليه...وبالتالي سيغرق في عطالة دائمة، وفي انطوائية كبيرة، وسينغمس في اليأس وندب الحظ...
ونستشف إشارة قوية من الكاتب، وهي أن الموهبة تموت إذا لم تجد من يرعاها...ولذا شتان بين البحث عن لقمة العيش، وسد الرمق، والإبداع فهما نقيضان لا يلتقيان أبدا...
10- الكفكاوية: تتجلى الكفكاوية في الغربة، والعزلة، والتحري،والعبث، والإدهاش، والاستغراب، والتردد ...
تظهر الكفكاوية في اهتمام عبد الله المتقي بالساعات، وتوظيفها في بعض قصصه.. وهذا يذكرنا باهتمام فرانز كافكا بالساعات، والتي تتفاوت في سرعتها مبينة التفاوت بين الزمن الداخلي للإنسان والزمن الآلي في العالم الخارجي،كما في روايته (المحاكمة).
ففي قصته (ساعة موت)، والتي يقول فيها:
"يندولان عتيقان يتكتكان في أحلام رجل مسن...
(يسقط البندول الأول)
كاد قلب الرجل الهرم يتوقف في النوم...
(يسقط البندول الثاني).
و... يتوقف قلب الرجل عن خفقان...
البندول الأول: يحدق في الساعة الهرمة..
البندول الثاني: يتفرس موت الرجل الذي هرم ما يكفي)...
وفي قصته (بندولان)، والتي قول فيها:
"1- رجل جمع حقيبته، ثم خرج يبحث عن محطة للحافلات...
2- في نفس اليوم، رزمت امرأة صرتها ، ثم خرجت تبحث عن مطار..
3- هناك في المقهى ...امرأة تحدق مليا في بندول ساعتها المعطل..
4- هناك في الحانة .. رجل نسي موعد المقهى، وفي جيبه ساعة يدوية ببندول واحد ، اقتناها للمرأة من سوق البراغيث"...
ففي القصة الأولى ، نجد عدم التطابق بين وقت البطل/ الرجل المسن ، الداخلي ، ووقت العالم من حوله.. مشيرا هذا الانعدام إلى إحساسه بالتهاوي، والتفسخ والابتذال في حياته.. وبالتالي ينتج عن هذا الإحساس فقدان الصلة بين الإنسان والعالم...
إن سقوط البندولين ، هو خروج من الزمانية ، أو ما سميه كافكا بالخروج عن مجرى الزمن...فالسقوط يعني أن زمنه انتهى... ولم يتبق له من الزمن إلا دقائق معدودة.. وبعدها يكون السقوط النهائي...
ومن خلال الساعة يتضح أنه انفصل عن الزمن العام... واقترب الموت إلى زمنه الداخلي الخاص...
أما الساعة في القصة الثانية، فهي تشبه ساعة (دلسي Dilsey) في رواية (الصخب والعنف The sound and fury) ل(فوكنر).. لها عقرب واحد.. وحتى هذا العقرب أبطأ مما ينبغي...
وعبد الله المتقي ، من خلال توظيفه الساعة في قصتيه، كأنه يقول لنا:"إن طبيعة الأشياء المنتهية تحمل في ذاتها بذرة فتاتها كجوهر وجودها: أي أن ساعة ولادتها هي ساعة موتها" ...
كما أن ساعاته في قصتيه تشبه ساعة( إيزاك بورغ)، في رواية (التوت البري Wild stamberries) لإنغمار برغمان...
II-الجماليات والفنيات في المجموعة القصصية:
تضمنت (قليل من الملائكة) مجموعة من التقنيات ، التي حققت لها الجمالية واللفنية، وجعلتها كتابة قصصية متميزة...
ومن هذه التقنيات، والجماليات والفنيات الموظفة:
1- تقنية الكتابة القصية: المجموعة القصصية تكتسي فنيتها ، وجمالياتها ، وبالغتها من تنوع قضاياها المتضمنة، والخالية من أي زخرف بلاغي ، أو تزيين براق خادع...
لكن هذا لم يمنع عبد الله المتقي من صياغة قصصه القصيرة جدا موظفا فيها بعض الجماليات والفنيات التي تميزه عن كثير من كتاب القصة القصيرة جدا.. ومن هذه التقنيات:
- حضور لفظ الحكاية في قصة (ساديزم- ماء الحكي- لوحة- اشتعال الماء- غروب- قمر وحكاية- )..
- حضور لفظ القصة في قصة (قصة (غير) منسية).
- حضور لفظ الكتابة في قصة (مجرد انتحار- أونامير – سمكة حمراء- مرآة).
- حضور لفظ الومضة في قصة (play).
- حضور لفظ الأحجية في قصة ( غبار الضحك)...
وهذا يبين مفهوم عبد الله المتقي لفن القصة القصيرة جدا، فهي كلها مسميات يوردها لمسمى واحد هو القصة...
2- اعتماد الحوار: يحتل الحوار حيزا مهما في بعض قصصه القصيرة جدا.. ويعتبر تقنية مسرحية ، وظفها عبد الله المتقي في كتابته القصصية ليدفع بالحدث إلى الأمام.. وليصعد من درامية القصة، وليطرح من خلاله مجموعة من الأفكار والرؤى، والتأملات...كما في قصته (ماء الفلسفة)، التي قول فيها:
"المطر ينقر زجاج النافذة خفيفا..
الطفل: من أين يأتي ماء المطر؟...
الأم: من السحب.
الطفل: ومن أين تأتي السحب؟...
الأم: من الماء..
فغر الطفل فاه في حيرة بريئة، ولم يفهم..."
3- التكرار: اعتمد عبد الله المتقي في كثير من قصصه القصيرة جدا تقنية التكرار... لما تحققه من إيقاعية، وجمالية ، وترديد صوتي...
ويتخذ التكرار في (قليل من الملائكة) تجليات ثلاث، أساسية، هي:
أ- تجلي معجمي: حيث تتكرر الكلمة مرات في النص القصصي الواحد. وهذه الكلمة تأخذ أشكالا كثيرة:
- فهناك تكرار الفعل كما في قصة (بحيرة الشيوخ)، حيث تكرر فعل (تنصل- انطفأ)
(1- تنصل الرجل من ثيابه الداخلية، ونام قريبا من امرأة ما زالت تلبس جلبابها...
(انطفأ الرجل وأسدل جفنيه ورأى في المنام سمكة في الصحراء).
(- تنصلت المرأة من سروالها الخفيف، ونامت قريبا من رجل يشخر موسيقى الجاز...
( انطفأت المرأة كي تحلم بنفس السمكة تترنح خارج بحيرة ماء).
- تكرار اسم الإشارة ، كما في قصة (بندولان- play- رحيل العمر)..
- تكرار الاسم ، كما في قصة ( نور ونار)...
- تكرار حرف الجر. كما في قصة (طين- خيانة).
- تكرار الناسخ الفعلي، كما في قصة (كوخ موسيقى).
- تكرار حرف العطف (الواو).. كما في قصة (لوحة)...
ب- تجليات تركيبية: حيث يتم تكرار الجملة مرارا...كما في قصة (قبعتان)...
ج- تجليات دلالية،تتكرر فيها الجملة والكلمة معان بنفس المعنى عدة مرات، كما في قصة(ساعة موت):
"بندولان عتيقان يتكتكان في أحلام رجل مسن.
(يسقط البندول الأول).
كاد قلب الرجل الهرم يتوقف في النوم.
(يسقط البندول الثاني).
و... يتوقف قلب الرجل عن خفقان.
البندول الأول: يحدق في الساعة الهرمة.
البندول الثاني: يتفرس موت الرجل الذي هرم ما يكفي."
4- التهجين والتعدد اللغوي: يعتمد عبد الله المتقي في بعض قصص مجموعته (قليل من الملائكة) على توظيف التعدد اللغوي، الشيء الذي يحقق نوعا من البوليفونية داخل النص القصصي.. نستنبط منها لغة شعبية مهجنة، وملحقة بالفصحى والدارجة المغربية..
ويعبر هذا التعدد عن تعدد الفئات الاجتماعية، وتنوع طبقاتها، واختلافها... وهذا التهجين والتنوع يدل على تهجين المجتمع، وتنوع طبقاته، وصراعه الطبقي...إذ نجده يوظف في بعض قصصه بعض الملفوظات الشعبية، التي تدخل في لسان الدارج المغربي، كما في قصته (رحيل العمر)...فهي تشتمل على كلمة دارجية مفصحة(تفصيح الدارج والعامي)، وهي كلمة (مفقوسة)، ليصف بها الحالة النفسية والمزاجية للجدة... إذ يعبر بهذه اللفظة الدارجية عن قلقها، وتوترها، وضغطها المرتفع، ولو أن للكلمة مرجعيتها في فصيح اللغة العربية.
كما نجد في قصته(circuit)، توظيفا لملفوظ عامي، يريد به عبد الله المتقي توصيفا لهيئة...وهي (زوينة بزاف).. ليعبر بها عن صفة لازمة للموصوف، وهي(الجمال الكثير)، أي إنها (جميلة جدا)...
وفي قصته ( فان كوخ) نجده يستعمل ملفوظا لغويا عاميا، وهو (بحال لغزال)، ليعتمده كتشبيه، فنجد مشبها (امرأة)، وأداة التشبيه( بحال)ن ومشبه به (لغزال)، دون ذكر للوجه الشبه...
ويتخطى توظيف الملفوظ العامي إلى توظيف بعض الكلمات اللاتينية(فرنسية – إنجليزية)،مثل(free time- remillant-playstation- the end ...
وهذا يوفر في هذه القصص القصيرة جدا تعددا لغويا ولسانيا نسبيين.. وهو بهذا يكسر بعض الحواجز بين العامية والفصحى، التي يعمل بها على إعادة تنبير الصوغ الأسلوبي... الشيء الذي يعطي لهذه القصص بعدها الاجتماعي، وعمقه...
كما أن عبد الله المتقي بتوظيفه لهذا التنوع اللغوي والملفوظي، يخرق به عتاقة اللغة..وأحادية الخطاب...
5- هندسة شكل السطر الشعري: عندما نتمعن في بعض قصص عبد الله المتقي، نستشف من خلالها الشاعر المتخفي في القاص...
هذا ما يجعل عبد الله المتقي يغير في هندسة شكل قصصه القصيرة جدا...فيعتمد على الجملة القصيرة، والتي يشكل من خلالها سطرا شعريا... وبذلك ينتفي النثري أمام الشعري، والشعري ضمن النثري... مما يبين وبالواضح أن القاص عبد الله المتقي قاص وأديب مهووس بالشعر.. ورغم حرصه الشديد، يتسلل الشعر إلى كتاباته.. وأحيانا يثور عليه ليتبدى في شكل الكتابة، وهندستها الشكلية.
يقول في قصته ( ماء يحكي):
"الشمس صفراء(كالبول)..
رجل وامرأة
تحت العبارة
يحكيان عن تجاعيد الأرض...
وعن دلو غير مبلل بالماء...
*****
المرأة والرجل ينسجان حكايا عن الجوع...
من قبيل:
شحمة الديك...
قرينة لغزال
بلعمان...
وكان الصبار في تلك اللحظة..
مضطجعا على ظهره..
يشرب ماء الحكي"...
ففي هذه القصة القصيرة جدا، تأخذ جملها شكل السطر الشعري، وبذلك تنتفي الحدود بين النثر والشعر...الشيء الذي يجعلنا من خلال الملمح البصري نجزم بأنها قصيدة شعرية أو تكاد تقترب من الشعر... ما دامت تتلبس شكل القصيدة... وإذا ما قارناها بما ينشر في المغرب من مجاميع شعرية، وما تتضمنه الملاحق الثقافية من قصائد نثرية، فإن هذه القصة القصيرة جدا، وغيرها تدخل في نطاق الشعر والقصيد.. ولا يعفيها من أنها قصيدة تتلبس القصة...
7- التقطيع والعنونة: يعتمد عبد الله المتقي في بعض قصصه القصيرة جدا (قليل من الملائكة)، على تقطيع النص القصصي إلى مقاطع مرقمة، أو معنونة، أو هما معا... يجمعها التنظيم ن والوحدة المنطقية لتراتب المعنى.. وأحيانا تتسم بالفوضى، والتشتت واللاانتظام...
فمن القصص القصيرة جدا التي اعتمدت الترقيم، نجد قصة( حرب)، والتي يقول فيها:
-1-
المتاريس فارغة تماما..
سوى قبعات وبنادق مبعثرة، تراقب الموت بحذر...
- 2-
جثت مجهولة الهوية...
- 3-
لا وقت الآن...
لدفن الموتى ، إنهم كثر..."
وكذلك في قصته (بحيرة الشيوخ)، و(بندولان)،و(قبعتان)،و(أغنية)،و(العقيق)،و(فان كوخ)و(بهدوء قاتل)،و(كاميرا خفية)،و(مرآة)، و(شن وطبقة)...
وعندما نتمعن في هذه القصص القصيرة جدا،نجدها تتفاوت فيما بينها في عدد المقاطع، إذ نحصل على التالي:
- بحيرة الشيوخ ، تتكون من مقطعين مرقمين.
- بندولان. تتكون من أربعة مقاطع مرقمة.
- قبعتان. تتكون من ثلاثة مقاطع مرقمة.
- أغنية. تتكون من أربعة مقاطع مرقمة.
- سمكة حمراء. تتكون من ثلاثة مقاطع مرقمة.
- حرب. تتكون من ثلاثة مقاطع مرقمة.
- العقيق الحر. تتكون من مقطعين مرقمين.
- فان كوخ. تتكون من مقطعين مرقمين.
- خيانة. تتكون من مقطعين مرقمين.
- بهدوء قاتل. تتكون من ثلاثة مقاطع مرقمة.
- كاميرا خفية. تتكون من ثلاثة مقاطع مرقمة.
- مرآة. تتكون من مقطعين مرقمين.
- شن وطبقة. تتكون من ثلاثة مقاطع مرقمة.
أما القصص القصيرة جدا التي تتكون من مقاطع معنونة، أي أنه وضع لكل مقطع عنوانا، فهي:
- قفاز أنيق. تتكون من مقطعين معنونين.
- حياتي. تتكون من مقطعين معنونين.
أما القصص القصيرة جدا ، التي تتكون من مقاطع غير مرقمة ، وغير معنونة، فصل بين كل مقطع بنجمات، فهي:
- طباق الحلم. وتتكون من مقطعين غير مرقمين ، وغير معنونين.
- ماء الحكي. وتتكون من مقطعين غير مرقمين وغير معنونين.
7- المفارقة: يعتبر الأستاذ جاسم خلف إلياس، المفارقة من تقانات العمل القصصي، والتي تعمل على تحويل التداولي الحياتي إلى معطى لغوي ذي حمولات متزاحمة...
ويقول في مقال رقمي له ،تحت عنوان(المفارقة في القصة القصيرة جدا)، بأن المفارقة تعد لعبة عقلية ذكية من أرقى أنواع النشاط العقلي. إذ هي على الرغم من أنها استراتيجية في الإحباط واللامبالاة، وخيبة الأمل، إلا إنها في الوقت نفسه تنطوي على جانب إيجابي.
والمفارقة في معناها العام، هي جريان حدث بصورة عفوية على حساب حدث آخر هو المقصود في النهاية... كما يؤكد ذلك الأستاذ جاسم خلف إلياس...
والملاحظ في قصص (قليل من الملائكة)، أنها تقوم على الحركة الداخلية، التي تؤسس للحركة الدينامية للقصص، المبنية على المواقف والمفارقات...
صحيح أن