موضوع: اقتناص اللآلئ من أنهار لا تعرف الخوف 22/2/2010, 22:54
اقتناص اللآلئ من أنهار لا تعرف الخوف " دراسة نقدية " بقلم مالكة عسال
مقدمة سقطت المجموعة الشعرية "أنهار لاتعرف الخوف " للشاعر الدكتور جمال مرسي بين يدي على تراب مصر بتاريخ 07/08/2009 أثناء حفل توقيع ..كان فيه جهابذة الأدب، يحتضنون برفق هذا المولود الجديد ،الذي ازدان به مهد المكتبة العربية ،فلما جُلت بعيني بين تضاريسه ،صاعدة إلى قممه ،متوغلة في غاباته ،هابطة إلى مغاوره ،تراءت لي لآلئ براقة ،تشع بين كثبان الحرف ،فبادرت إلى اقتناص أنفسها دون تردد ... 1ـ فاتحة المجموعة **- العنوان "أنهار لاتعرف الخوف "عنوان يتركب من جملة اسمية من أربع كلمات: اسم وفعل مضارع منفي ومفعول به ،والجملة في حد ذاتهاغريبة الصياغة ، إذ يؤنسن شاعرنا الدكتور جمال مرسي شيئا جامدا ،بشكل غير مألوف ،ليصرف نظر القارئ إلى ماوراء السطر،ويتصيد الدلالة العميقة الغائرة بين الكلمات ... والمقصود به خيول الشعر الجامحة التي لاتعرف التوقف ،والدفقات الشعرية المتلاحقة التي لاحدود لها ،وهذا ماستؤكده بعض قصائد الشاعر .. ** - الغلاف يرفل الغلاف في ألوان برتقالية ،بنفسجية ،وفيروزية ،تميد بين الفاتح و المغلوق ،على دفته اليمنى ،صورة إنسان معتم الملامح ،وترمي إلى أسرار الكون المبهمة ،التي أصبحت مجرد طلاسم أمام الإنسان ..وإلى سراديبه المبهمة ،مُغلقَة الألغاز ...تتذيل الصورة برمز المطبعة ...وعلى اليسرى تنسرح مقدمة طيبة وجميلة ،للناقد الكبير مصطفى عطية ،كلمسة مضيئة توضيحية للأضمومة ومفتاح أسرارها ..وفي أعلى يسارها ،صورة الكتاب على ضفة النيل ،مذيلة بصورة مصغرة للكتاب ،ونفس رمز المطبعة ..وتفاوت الألوان هذا يعكس بوضوح الضربات النفسية الشادة والخفيفة على الشاعر ، ... 2ـــ الأبعاد التيمية **- الشعر أي شاعر، يحتضن في كيانه طفلا صغيرا ،يركض بين الجوانح ،يسامره حين تأتي اللحظات الجنونية ، المتدفقة بالقرائح .فلايهدأ للطفل حركة ،ولايسكن له شغب ،إلا حين تولد القصيدة ..والشاعر جمال مرسي يشكو لنا غصة حاله،في سمره الليلي ،وهو ينازل طفله المشاغب المتدلي من مخيلة الذكريات، بهطولها المكثف بالصور ،فتلهمه لحظة الإشراق ،كالمهرة تتسلل بين أستار الليل الفضفاضة إلى قلبه ،فتُنطقه بما لم يعهد قوله . يقول : رأيتك كالطير في أفْق ذاكرتي سابحة وفي ظلمة الليل أوقدت شمعة روحك همهمت يامهرتي الجامحة ص:8 وحين تشتد لحظات الضيق بالشاعر ،ويطوف بأرجاء الكون باحثا عن فجوة آمنة ،يرمم فيها تمزقاته لإعادة التوازن إلى النفس ،ويشتد الصراع ،تنزلق من يده خيوط التماسك ،فيعود بقشته الأخيرة إلى محراب الشعر ،هذا الحقل الزاهر الذي يطهر الروح . يقول الشاعر : يا حبي الأزلي سنرسم دائرة للحوار ص: 47 بالفعل يتلظى الشاعر بعشقه للشعر، حين يسري في عروقه في صمت، فهو معوله الوحيد للحفر في مفازات الكون، وإعادة تشكيله وفق الرؤيا المأمولة ،والحلم المنشود ،فالشعر باختصار شديد ،هو ذاك الملاذ الفاتن الذي يرحل إليه الشاعر ،ليحتمي بسقفه من عواتي الزمن المجبولة بالظلم، واليأس، والضيم ،فبه يكشف الشاعر أسرار الحياة ،ويفك طلاسمها ،وبه يضيئ معتماتها ويفتح كل إبهام .. ويصل التحام الدكتور جمال مرسي بالشعرحد الذوبان ، فيراه رفيق دربه ،وأنيس عزلته، لايبتغي منه شهرة ولالقبا ، ويصل العشق الصوفي مداه ،فيرى شاعرنا الشاعر الموهوب في غنى مطلق، يفوق فيه مراتب الملوك ،فإن كان الملك يبسط سيطرته على رقعة محددة في هذا الكون ،فالشاعر ملكُه الكون كله دون حدود ... يقول : إذا كان كل الملوك اعتلوا سدة الحكم قبلي فمن في الملوك له عرش حبك مثلي ومن كان غيري يملك بين يديه القرار ص:68 فالشاعر الدكتور جمال مرسي يتأبط وباءه الشعري الجميل ،يهتز فيه على أوتار الوضع المقلق،ليعيد إليه صفاء الروح ،فيرمم انشطار الذات في عزفه المتواصل،قد يصل الحزن بالشاعر مداه ،ولا يجد رقعة يطفئ فيها هذا اللهب ،غير جب القصيدة ، الصوت الفاضح ،لقوانين العبث ،الصارخ ضد الهيمنة والاجتياح ،اللسان لمن لا لسان له ،الكحول المطهر للأرجاء الملوثة ،دمعة المكلوم ،وآهة المفجوع ،وأنين المظلوم ،وإبراء الملسوع ، فالشعر في رأيه دواء النفس حين تصاب بنكسة التمزق ، فبِه يخاطب الشاعر القارئ بأبعاده التيمية المتنوعة ،ليعقله إلى جنبه ،ويتقاسم معه قهوة هذا الهم الحارق . **الوطن يبتلي الشاعر بعشقه للوطن ،فيصير صديقا له ،يحدثه وكأنه يحدث خلا يروق له الإصغاء ،فينبئه بما سيأتي في المقبل ،ويمسح الحزن عن جبينه ،ويفك أسره ويجعله يرفل في فضاء الحرية ،بأجنحة من حرير .. أيا وطني المستحم بنور حبيبي حبك دين تعلّق في عنقي ص:54 ويصل التمسك بالوطن ذروته حين يصف شاعرنا موجة الرحيل عن وطنه ،ويتمزق عشقا إليه وشوقا وحنينا .. يقول : ويمينك راية شوق تلوح لي ونوارس قلبي حولك تعزف لحن الرحيل ص:52 فحنينه إلى وطنه جامح ،لم يهدأ له روع ،ولاسكن له جفن ،يُضجره ما يحل به من ضياع ،ويدعوه إلى النهوض من كبوته ،ليعتلي مدارج الرقي .. قم ياوطن يقول : قم فاغسل الوجه الذي نقشتْ عليه ـــ بريشة القهر ـــ الضياع يدُ الزمن ص:82 تهزه الوطنية أكثر ، حين يراه يباع أطرافا أمام عينيه رافضا محتجا ،صارخا ضد من يعيث فيه فسادا ،فيصف شاعرنا الفاسدين بخفافيش تتوغل في الوطن باسطة على حقوله الخضراء اليانعة كثل الضباب فتنطفئ أنواره .. يقول : الخفافيش سربا فسربا تحاول أن تطفئ النور في مدن الحلم ص:87 الوطن يهمس في عروق الشاعر ،في رحيله في أسفاره ،يتشبث برحيق أزهاره ،برائحة مسقط رأسه حتى التلف ،بل الوطن بشموسه ،وجباله ،يسكن أوردة الشاعر،يتبادل وإياه الإخلاص حد التلاحم ...وهذه قمة الأصالة والوفاء .. يقول : لينثرني هواءً في ربا وطني ويبعثني دماء في عروق الأرض ص:96 **- الإنسان القضية للشاعر عين مجهرية على الكون عامة ،والإنسان القضية خاصة :إنسان ضحية الحروب والقتل والاغتيال ،فيخفض لغزة جناحا من عواطفه النبيلة ،واصفا جرح أطفال الحجارة ،والريح العتية التي عصفت بكيان القدس ،وماأمطرته عليها من إجرام بشع ،ونكبات متناوبة ،مُصرا على المقاومة والنضال ،حتى يعاد إليها مجدها وبهاءها .. يقول : حتى يعودوا مثلما الطير الأبابيل انتفاضات على ليل يعربد في ضلوع القدس يغرس نصله في طُهر غزة ص:104 فالشاعر بحسام شعره المهند ،له دور في النصر المنتظر ،يضرب بحديه كل معتد... يقول : زرع القصيدة ثم نام بفيّها يسراه تُمسك غصن الزيتون وفي اليمنى حُسام ص:105 **- الحزن واليأس يرافقان الشاعر في دربه كالظل ،ملتصقان به ليسا عبثا،بل هيمنا على الشاعر انطلاقا ،مما يحس به من صراع قوي،يعيشه مع وضع يرفضه بتجلياته، ورذائله، وأوساخه ،ومجبرعلى العيش فيه ، رغما عنه ،ولاحول له ولا قوة ،كي يغيره وفق مايحلم به ويأمل ،وهذا العسر الشديد ،ولّد للشاعر قلقا وانفعالا شديدين .. يقول : أراك حزينا وحزنك حزني ودمعك يشعل أتراحي العاتية ص:27 فسكنه الأرق وخيمت عليه الكآبة حتى أصبحت الدنيا في عينيه ،بقممها ،بنسائمها بحدائقها ،تدثرها لجة من السواد ،وهذا السواد مترتب في النفس ،انطلاقا بما يحس به من مفارقات الكون وتناقضاته .. يقول : أرق أرق الليل يسكنه الأرق وأنا سأسكن خيمة الليل الذي أبصرته ص:22 يفيض اليأس بالشاعر ،فيتراءى له الواقع موبوء ا محملا بالأوهام الكاذبة ..،لاتفرخ ذؤاباته غير غابات من الموت لاغتيال الأحلام جنينية ،فيود شاعرنا الرحيل ،لكن ليس الرحيل إلى بلد آخر ،بل الرحيل في النفس، في الأعماق من غيمة مجلوة بالحزن،إلى مرفأ وضيء، ينضح بسماء صافية لاشائبة فيها ولاغبار ... يقول : ومدينة الأحلام وهم كاذب هي كالسراب وأنت يقتلك الصدى ص:40 **- الغربة في الذات تجتاح الشاعر أحيانا عزلة حارقة ،فيجد نفسه في فضاء موحش قحل ،وهذه الوحدة المفرطة ،قد تنتاب الشعراء في رحلاتهم الإبداعية ،حتى ولو كانوا بين الجماعة ،وهي لحظة صمت مطلقة ،يخلو فيها الشاعر إلى ذاته ،لينصت إلى عزفها النازف ،وهي وحدة كامنة في النفس ،تعد بامتياز اللبنة الأولى للإبداع وسره ،حيث الشاعر يتوحد مع حبره وبياضه ورؤياه وتأملاته ،فيؤثث هذا الفراغ بما ينساب عليه من إلهام ... يقول : وحيدا أطل على البحر أرقب أمواجه والظلام رويدا رويدا يسير إليه تلف الخضم ملاءته ص:35 حين يتعذر على شاعرنا الخلاص ،وتحاصره أمواج التصدي لحلمه ،ينسرب إلى قرارات نفسه ،يعلن سفره في لب القصيدة، ليخرج من هزيمته غير الموقوتة،بنصر مبين .. يقول : ولسوف أخرج من محارات التوجس والهزيمة كي أعيش محلقا ...كالنسر ... في جو القصيدة ص: 102 **- الحلم والأمل والتحدي على الرغم من غيمة الأحزان المهيمنة على أشعار دكتورنا الشاعر جمال مرسي،التي فجرتها أوضاع أوطان مكلومة ،يتخاذل ساداتها بمؤامراتهم الخسيسة ،وخططهم الذنيئة القاتلة للشعوب ..فهو لم يستسلم لليأس ،بل من رماده سيبعث طائر الفينيق الملون ،ليُشعل في الحدائق النصرَ ،ويعود بالأغنيات الجديدة ،وهذا هو الحلم المأمول الذي يعيش عليه كل شاعر... يقول: فدعوهُ ، ولاتحدثوا ضجة إنه نائم يستريح قليلا ومن تَمّ يرجع بالأغنيات الجديدة ص:18 حلم وارف ،وتطلع جامح إلى التغيير ،سيظل الشاعر يركض خلفهما ،إلى أن يتحققا . وستظل هامته مرفوعة ،وأفقه شامخا ،وفلكه إلى الأمام ،لن يوقفه صخر ،ولاغور ،لأنه وارث الشجاعة والإباء عن أجداده ،فلايهاب الموت ،ولاينحني للغزاة مهما كان الثمن ،وله فخر كل الفخر أن يوشح صدره بآيات الاستشهاد .. يقول : لي بقايا سيف عنترة الأبي وماتبقى من صراعات القبائل ص:12 فشاعرنا يحمل في ثنيه مشعل الإصرار والتحدي ،ليحقق حلمه ،إما بالنصر أو الاستشهاد ،ولايخنع أو يركع مهما كان الأمر ،وهنا يتضح بجلاء أن كل مثقف حقيقي ،يحمل لواء النضال بصدق ،لاتحاصره أعين الهيمنة ،ولايصمت لسيف على رقبته ،فاضحا أقنعة الزيف حاجبة الحقيقة ،متمسكا بمبادئه النظيفة الساعية إلى التغيير ،للوصول إلى شرفة مضيئة مترعة بالرفاهية ،فحين يجلجل صوته بالحق ساحقا المصالح الشخصية ،مخلخلة رؤياه هندساتِها الوهمية، فاضحا طرقَها المغلوطة ،يرتعب أصحابُها من الفضح ..وعليه فشاعرنا يركب موج التحدي بمبدئه وشعره على كتفه ،ولن يتخلى عن دربه الذي اختاره ولو بلغت به المطايا قبرَ الموت ،متجاوزا التضاريس الصعبة بكهوفها ومغاورها .. يقول : أنا شاعر القمح رغم الخناجر تطعنني من ورائي سأبقى كسنبلة جذرها في الرماد وحباتها في السماء ص:91 3- البناء المعماري لكل شاعر طقوسه الخاصة في صياغة اللفظ ،واختيارمعناه ،وكيفية هندسة النصوص ،واختيار عناوينها ،فيتلاعب ببياضها ،مهندسا للمسكوت عنه ،أو مكررا لازمة معينة،أو ناثرا بين السطور بياضا ما ،ليترك متسعا للقارئ،حتى يشاركه ،متقاسما معه إشعاع الحرف ، .. **- العناوين فالشاعر يُشرك قارئه في ملء الفراغات ،في قراءات مابين السطور ،لذا نلمس قدرته في تمويهه بفتح سراديب ،عن طريق ترويض اللغة بالرمزي والإيحائي ،فيخلق منها ألعابا تخفي شباكا دلالية ،ومعاني غائرة لاحدود لها ،والغرض من ذلك دغدغة نباهته ،وإيقاظ حسه ،فتأتي أغلب عناوين النصوص مهندسة بشكل محكم ،تستدعي القارئ للاستمتاع بمذاقها الشهي .. لو جمعناها عموديا ستبدو كأنها شذرات نص شعري بكل مقومات القصيدة بفضل ماتحمله من رتابة.. ومن غرابة في اللفظ كما يتضح هنا : ــ قالت جملتين وسافرت ص:81 ــ أنا لست هو ص:11 ــ من كان مثلي ص:67 ــ على مرفأ عينيها ً:69 ـــ سأنقش رسمه نيلا ص:95 لاحظوا فبتجميع هذه العناوين نسجنا نصا شعريا فريدا،معتمد التكثيف ...بالإضافة إلى أن جل العناوين تملك إيقاعا له ضرباته القوية على النفس ... **- اللازمة المتكررة قد يكرر الشاعر لفظة أو جملة على رأس كل فقرة ،لكن ليس تكرار مجانيا عبثيا ،بل تأكيدا فنيا لطيفا، الغرض منه تحريك مهجة القارئ ،أو لفت انتباهه إلى معنى معين ،كما هو الشأن في قصيدة "استحالة " ص:55 ، بتكرار نفس العنوان ..وكما هو جلي في قصيدة "لك اعتذار البنفسجات "ص:59 **- الجزيرات وتجاوز الأمر العناوين، واللوازم المتكررة إلى هندسات ملفتة النظر،حيث تفنن الشاعر في صياغة قصائده ،واتخذ لها عمرانا آخر ،تميزبه عن باقي شعراء جيله ،فإلى جانب الكتابات الاعتيادية العادية للنصوص الشعرية ،تطرق الشاعر إلى انتهاج مسار آخر في تشكيل القصيدة وهيكلتها جزيرات، حيث كل جُزيرة تنفرد بموضوعها ،لكن تصب كلها في بوتقة واحدة..فبوعي أو بغير وعي منه ، فالشاعر ضرب أطناب الهايكو اليباني ،والتي قد يقتنص القارئ لذتها الجمالية الفريدة ،شكلا ومضمونا ...كما الشأن في قصيدة "ضمائر وإشارات ".ص:107 **- الإيقاع التفعيلي مهما تطورت قصيدة النثر وبلغت أوج الحداثة ،و أعلنت قطيعتها مع الماضي بكل قرائنه ،لابد من خيط رفيع يشدها إلى الأصل النبع أو الجذر الأول ،حتى لاتصبح غريبة ،ومن تمّ تبدو قصائد شاعرنا الدكتور جمال مرسي تتمنطق بقرينة التفعيلة أحيانا ،وإن لم تستقم على بحر واحد ،فهي تميس بين الإيقاع الداخلي والموسيقى الخارجية ،حيث استطاع الشاعر بحنكته أن يعزف على الوترين بمهارة عالية نضرب في ذلك مثالا : في مدى مقلتيه الورود فاعلاتن فعولن فعول ولاتخنقوا صوته مفاعيل مستفعلن قد سقاه كؤوس عبير فاعلاتن فعولن فعول ص:17 أحيانا تطرب الشاعرَ قصائدُه ،فيترنم بصوتها ، ويتبادل وإياها الهمس المطربَ،فيشق خصرها ضاربا السهل الممتنع ،فتنسرب بين أنامله كجدائل الحرير ،مشَكّلة بتطريز فاتن ،يراوغ اللغة بما هو غير معهود ... 4- الجانب الفني فإلى جانب روعة الشاعر في هندسة نصوصه ،نجده له ريادة فائقة في الجانب الفني ،حيث نلمس جوانب فنية متعددة تشد القارئ بقوة : **- السرد الحكائي تفرد الشاعر الدكتور جمال مرسي بطقوس خاصة ،فلم يبق قيد الرمز والإيحاء والصور الشعرية ،بل ضرب نوعا جديدا في القصيدة ،قلما يمكله غيره ،وزند حرارته ببراعة قوية ،وهو الشعر الحكائي حيث في بعض القصائد، يحول الشاعر الموضوع إلى سرد قصصي، في قالب حكائي شعري متين ،متتبعا الأحداث جسرا جسرا ،ولبنة لبنة ،إلى متم الحكاية ،وقصيدة "جواز المرور"شاهدة على ذلك ... ص:93 وص:94 **- التماهي مع الطبيعة يشتد عطش الشوق بشاعرنا الدكتور جمال مرسي ،وتكتنز نفسه بالهموم ،فيفرغ شحنة حزنه على محاسن الطبيعة يهامس سمعها ،ويلقي على شواطئها عباءة ثقله الموجع ، نفحة صعترية من شاعرنا خليل مطران ، وهذه مناجاة رقيقة للنيل يضفي عليه أحاسيسه المشتعلة ،ليتقاسم معه قهوة الأحزان على طاولة الانشطار ،كلحظة تنفيس عما يحس به الشاعر ،من أزمة نفسية مغرقة في الأسى ،يفجرها في محاكاة الطبيعة ،ومناجاتها ... يقول : ياأيها النيل واصل مسيرك دعني هنا ولاتنس موعدنا كل يوم تعود إليّ فتلقي السلام ص:28 يخاطب الشاعر النيل وكأنه يوجه حوارا إلى صديق بقربه، يصبغ عليه خصائص إنسانية ... **- الصور الشعرية ترفل قصائد شاعرنا الدكتور جمال مرسي في صور شعرية بحلل بلورية ،تتزيا في ألوانها الماسية ،تضرب بلمعانها مهجة القارئ ،فتهز كل خيوطه بضربة كهربائية مدهشة ،ينسج طنافسها بمكعبات ودوائر ملونة ،فتغدو بأشكال هندسية بارعة ،وكأنها لوحات بريشة فنان تشكيلي .. يقول : الليل يسكن خيمة شتوية رسمت ملامحها الكواكب والنجوم وثبت أوتادها في الأرض أرسان الأرق ص:21 وتبلغ الصور الشعرية باستعارتها البليغة ذروة المتعة ،فتهز القارئ من جذوره بلحظة انتشاء إلى درجة الإغماق مُكهرِبة وممتعة في نفس الوقت ،تترصف على موائد القصيدة ،كطبق فاكهة في صحن مرمر ... يقول : راحل للفجر من ظلمة الليل دق أوتادا بقلبي وتمطى ـ عابثا ـ يأبى ارتحالة ص:55 لاحظوا معي هذه الصورة الشعرية المميزة المنقوشة بكل ألوان الطيف ،وكيف تزهو في حلة جمالية تصيب ذائقة القارئ بالتلف والذهول ... يقول : وليل طويل يخبئ حزنه في معطفي فأهرب من شبح الذكرايات إلى شرفة القلب ص:63 5- اللغة أيه عمل إبداعي لابد وأن نلمس فيه بصمة صاحبه ،تحدد بالضبط موازين قواه اللغوية ،وهذا هو سر البون الشاسع بين شاعر وآخر أو مدى تقاربهما ، من خلال حياكة القصيدة وتطرزيها، تلعب اللغة دورا كبيرا في الارتقاء بالشعر ،أو الهبوط به إلى أسفل درجة ..فمن له باع طويل في سعة الاطلاع ،والاستفادة من تجارب الآخرين ،تصبح لديه القدرة على التلاعب بالألفاظ وترصيفها ،وكأنه يمارس لعبة النرد على الطاولة .نجدها تتلون لديه في لبوس متعدد ومتنوع ..وهذا مااكتشفناه لدى شاعرنا في مجموعته "أنهار لاتعرف الخوف " **- السهل الممتنع قيل سابقا أعذب الشعر أكذبه ،وقيل اليوم أعذب الشعر أشده إبهاما ،وشاعرنا قفز على القوسين ،ناسجا من طقوسه مسارا خاصا ومميزا ،فضرب السهل الممتنع بصدق بكل ماتمليه الكلمة من معنى ،غير مغرق في الإبهام ،فكان يمسد جدائل القصائد بلغة حريرية ناعمة تشد القارئ إليها ،فيرشف بسهولة من عذوبتها ،وينتشي من زلالها الفياض دون شقاء .. يقول : أفيضي علي من السحر صوتك حين يقول :حبيبي يسافر بي عبر هذا الفضاء إلى النجمة الساهرة أطل على الكون من ناظريك ص:48 **- المفارقات تحلّت بعض قصائد الشاعر بمفارقات مدهشة ،يصوغها شاعرنا في حلة جديدة ،مداومة على عملية الخلق ،وإحياء اللغة وإنعاشها ،وتشكيلها ،فتَنطِق بما لم تقله سابقا ،بطريقة غريبة وغير مألوفة و سهلة المنال طبعا ،حيث تبدو القصيدة في كل قراءة بأطياف جديدة ... يقول : فرق كبير أن تكون يمينك البيضاء في نار ويسراك الشقية في الجليد ص:39 **- أنثى المخاطبة يميل الشاعر إلى أنثاه بشكل ملفت ،يكن لها غرفة دافئة في القلب ،بل يهيم في عشقها حد التصوف ،فيخصص لها مناخا من نبضه ،من دمه ،من حسه ،بل يتوجها أميرة على عرش وجدانه ،قد تكون الحبيبة ،أو الزوجة ،أو الابنة ،أو الأم ،أو البلدة ،أو الأمة العربية ،أو القصيدة ..فأغلب نصوص ديوان شاعرنا تصرخ بمناجاة ومخاطبة ومحاورة المعشوقة ،الأنثى التي جذبت اهتمام شاعرنا ،وسلبت عقله وروحه حد الغياب ،فلا يطيب له مقام إلا في محرابها ولادفء له إلا في حضنها .. يقول : لكِ الورد عقد لكِ الياسمين سوار لكِ الشمس تاج ص:67 ويقول: سأفتح كل نوافذ قلبي لينسابَ صوتكِ عبر الأثير كأنسام صبح ندي ص:47 خلاصة الدكتور جمال مرسي من رواد الشعر الحديث بامتياز لايفسح المجال لأي كان لتمجيده ،بهدف إعلان شأنه على فراغ ،أو بلوغ شهرة ما ،بل بريق درره تثقب الحجب ،عن الأعين ،لترى قلما سيالا لاينضب ،وصوتا صارخا بالحقيقة وحب الإنسان ،وقلبا يافعا مفعما بالود ،ومشاعر تحترق بالنزف ،وللمكتبة العربية حظ كبير في إغنائها بإبداع مميز ،من قبل شخص من حجم الدكتور جمال مرسي ،كما يُسعِد القارئ بفخر واعتزاز تتبعُ إبداعاته وارفة الظلال بنهم شديد .. مالكة عسال بتاريخ 12/02/2010