نورالدين بوصباع عضو
عدد المساهمات : 19 تاريخ التسجيل : 19/09/2009
| موضوع: شعرية الصمت وبلاغة البوح الشعري في ديوان" كنت أهيئ صمت الانتظار" 21/2/2010, 11:48 | |
| شعرية الصمت وبلاغة البوح الشعري في ديوان" كنت أهيئ صمت الانتظار" للشاعر المغربي عبد الحميد شوقي
تشكل قراءة العتبات أو النصوص الموازية في النقد الأدبي الحديث مدخلا مهما لاستغوار أعماق النص الإبداعي، فك شفراته واستكناه خباياه وأسراره البعيدة والخفية، وتبعا لذلك فهي أشبه ما تكون بالمفتاح السحري الذي نفتح به مغاليق خزائن النص الثمينة، ونكتشف مجاهله الخفية وعتماته المظلمة وبالتالي نفهم إرساليته ودلالته..إنها أي العتبات اختزال وتكثيف لعالم النص، وبؤرة بلاغية مشحونة تسمح بالتفسير أو التأويل الذي يهدف إلى الإمساك بسر الكتابة ومضامينها، لعبة اللغة وأشكالها ووجهة نظر الكاتب ومرجعه..إنها بعبارة أدق الإشارة المكتنزة للمعنى والتي لا يفهمها إلا من امتلك القدرة والموهبة على التأويل،ومن خلال هذا فالنص الإبداعي لا يقدم نفسه بيسر وسهولة للمتلقي، وإنما يتضمن ما يساعد على اكتشافه والوصول إليه ذلك أن الوصول هو سفر جميل في الزمن الماضي والآتي..مغامرة شيقة إلى مواطن العشق والحلم..غوص عميق في مقامات النفس بحثا عما يحييها، يخلصها، يفتح لها هامشا للبوح عن ضائقتها الإبداعية وهواجسها الوجودية خارج قلاع الصمت .فماذا عن قلعة الصمت(المنفى) وماذا عن بلاغة البوح الشعري في ديوان" كنت أهيئ صمت الانتظار"* الذي صدر أخيرا للشاعر المغربي عبد الحميد شوقي!...
انطلاقا لما أشرنا إليه أعلاه وفي سبيل الاستفادة من مدخل العتبات كشكل من الأشكال المؤسسة للنص الإبداعي نجد أن الشاعر عبد الحميد شوقي قد اختار كعتبة توجيهية لتصدير ديوانه " كنت أهيئ صمت الانتظار" قولة للمسرحي الايرلندي صمويل بيكيت " الصمت لغتي الأم" فهل هناك من مقاصد دلالية من وراء هذه القولة ! أم أنها لا تعدو أن تكون قولة عرضية لا قيمة لها في إغناء النص الإبداعي ولا استشراف أفقه الدلالي والسيمانطيقي!.
يبدو من خلال هذه القولة أن هناك تلازما بين الصمت واللغة الأم فالصمت أولا يمكن اعتباره ناطقا رسميا عن لغة مشفرة وعن ثقافة وسلوك مؤسس على نظرة عميقة ورؤيا ثاقبة جوانية للعودة إلى الذات، أي بمعنى آخر العودة عن الكلام مع الآخر عندما لا يصبح للكلام معنى، والانقطاع إلى حديث الذات مع ذاتها، إنه الصمت كما يعتبرستيفان مالارميه أحد الرموز الغامضة التي خرجت من محاولة الذات انعتاقها من واقعها المحسوس من خلال استبطان الذات والواقع الخارجي سعيا إلى المجهول أو ما يعتقد الرمزيون أنه الحقيقة**..إنه الصمت كذلك نوع من منفى الذات في رحابة التأملات، وفي عمق التفكر بحثا عن أجوبة شافية للممكن، ألم يقل يوروبيدس المسرحي اليوناني الكبير " الصمت يـعني الجواب" ثم ألـم يقل الشاعر الروماني القديم أوفـيديوس ناسو" الصمت العميق، اعـتراف كامل" وأيضـا ألـم يقـل بيكون" الصمت فضيلة المجانين".ثم ثانيا اللغة الأم باعتبارها لغة البدايات، اللغة في بهاءها الأول، في طبيعتها الأولى وتشكيلها الأول قبل أن تكبلها القيم، يزيفها التاريخ ويحجر عليها الجمود باسم الثابت والمقدس.إنها اللغة النابعة من تاريخ الناس..من عمق مأساتهم ..ألامهم ..وأمالهم..وتبعا لهذا وإذا حاولنا أن نتعرف على طبيعة العلاقة إن أفقيا أو عموديا بين قولة بيكيت وبين عنوان الديوان من جهة أولى والديوان من جهة ثانية فإننا نقول أن الشاعر عبد الحميد شوقي كان يهيئ اللغة المنتظرة/ الصمت النابعة من الذات وهي تختزل طريقها للامساك بالأجوبة الشافية عن أسئلة الإنسان المؤرقة، اللغة التي تنتفض على ذاتها لتعترف بغربة الإنسان، تمزقاته وضياعه، اللغة التي تبحث عن الفضيلة في بعدها الاستيطيقي وتنتصر لزمن التحولات الكبرى التي يفرضها منطق العصر وهو يتحرك إلى الأمام للامساك بشروط وروح الحداثة..شروط الانسان الجديد الذي يبدع ليكون صوت ذاته، عقل وسيد زمانه..إنها اللغة المنتظرة التي تبشر بالخلاص..
إن اختيار الشاعر في إبداعه وبوحه الشعري الاشتغال من داخل قلعة الصمت، ومن داخل منفى الذات يضعنا في صورة تكاد تكون متشابهة لقلعة ابن سلامة التي التجأ إليها خلدون بعدما أرهقته دسائس السياسة ومكر السياسيين ليكتب أعظم كتبه "المقدمة" كيف تبدأ الدول والأمم وكيف تنتهي! كيف يقوم العمران وكيف ينهار! فهل هناك من تقاطع بين التاريخ الذي خطه ابن خلدون والتاريخ الذي يتحدث عنه الشاعر عبد الحميد شوقي وإن شئنا القول ينفض عنه غبار النسيان ويخرجه من دائرة الصمت..تاريخ الذات المستلبة، الذاكرة المنخورة، الزمن الهارب، الدول المتساقطة، الأمكنة التي طمرت تحت الرمال، الزمن المغربي الضائع، وإذا كان محمد مطر عفيفي قد دعى للإنصات لهمس الكون لاغتراف المعرفة الكاملة وبالتالي استقاء اللغة الجديدة القادرة على خلق العالم فإن الشاعر عبد الحميد شوقي يدعونا إلى الإنصات لهمس التاريخ لاستشفاف عبره وبناء تصور حوله بالشكل الذي يسمح بإعادة تشكيله يقول الشاعر معبرا عن هذا المعنى :
في الزمان الهارب/ أزرع شمسا/ وبوابة لالتقاء الحضارات/ أفتح قبو الينابيع/ أنثر ضلوعي حصوات/ على طوار الأبد/ وأرصف الفضاء المحمول/ على مجد المساءات.../ أنا والزمان ظلان/ وجهان لممالك ضاربة/ في الرمال/ وجهان لأساطير/ تعبر خفق التواريخ/ لتؤبد انتصار النار السرمدية/ في روح الإنسان..(41)
هل نستطيع إذا أن نمسك بالزمان الهارب دون أن نسترجع روح الإنسان الآتية من عمق هذا الزمان الموصول بتاريخ الممالك الضاربة في الرمال، وبالأساطير وهي تعبر بخفق التواريخ، ثم ما معنى أن يكون للممالك وجهان وللأساطير وجهان ألا يذكرنا هذا بأسطورة جانوس الإله ذو الرأسين رمـز الحـماية والحصانة فنخلص إلا أن حماية الـذات من الضياع لا تتم إلا بالنظر من زاويتين، زاوية الماضي لكن دون الإقامة فيه أو تقديسه وزاوية المستقبل. لكن كيف نتمكن من استرجاع روح الإنسان فينا ونعبد بذلك نحو المستقبل دون أن نشك في ذواتنا المستلبة..في تاريخنا الممسوخ، يقول الشاعر معبرا عن هذا الشك:
شككت في دمي،/ في حقول القمح أمام عيني،/ في انكسار الشوق/ على شواطئ تغتالني../ ربما لم أكن ابن زمـاني/ وقفزت فوق العصور/ وقفزت فوق الثواني../ ربما لم أكن ما سأكون/ وأنكرتني شواهد الأمكنة/ لأحط روحي/ على كوامن أحـاسيس/ موغلة في السكون/ ربمـا كنـت ما لم أكـون/ صـورة في هباء/ أو حـكمة فـي مجـون../ ربـما/ لـم أكن مـا أكون..! (105)
أن نشك إذا معناه أن نأمن مكر التاريخ وزيف وقائعه كما يذهب هيجل، ثم أن نشك أيضا معناه أن نحلم بالخلاص من الانكسار، الحيرة والاحتراق يقول الشاعر:
توقفت عند مضاربهم/ كنت أعد لحلمي البعيد:/ أأولد في رملهم كالسحالي/ وأزحف فوق سراب الفصول..؟!/ أأولد في شعرهم/ وأؤبد تفعيلة الأقدمين..؟!/ هل الآن أم في زمان بديل...؟!
ترى ما هو هذا الحلم البعيد !وما هو هذا الزمان البديل الذي يصبو الشاعر إليه غير الزمان الذي نعود ونتجه فيه إلى ذواتنا وإلى كينونتنا بعد رحلة لامنتهية بين رمال الحكايا القديمة، إذ العودة إلى الذات هي في أصلها عودة إلى الزمان الممكن بعد انفلاته وسرقته، ثم أن نتوحد مع الزمان أو نصبح نحن والزمان ظلان أو توأمان فهو تأكيد على أن العودة إلى الذات هي العودة إلى الزمان يقول الشاعر:
بين رمال الحكايا القديمة/ صادفتُني عابرا في اتجاهي../ بلا صفة كنت،/ صوتي ارتداد متاهي..!(118)
إن العبور هنا من أعماق التاريخ إلى عمق الذات هو في أصله كما يقول أدونيس إحاطة بالتاريخ بما يتجاوز التاريخ، ذلك التجاوز والتخطي والنفي الذي يحمل في تضاعيفه الوعي بالزمن في صيرورته و سيرورته، أي الوعي بزمن الشعر كأفق متجدد ومنفتح على أسئلته رؤاه المستقبلية ومتاهاته، ثم كيف يصبح صوت الشاعر هنا ارتداد للمتاهة أو التيه، أليس التيه هنا كما يقول إميل سيوران شكل من أشكال المنفى(الصمت). التيه الذي يفضي إلى التملص من العالم و الانعتاق من سلطة التاريخ لتأكيد الرغبة في الوجود.أليست تجربة التيه هنا أبلغ مثال على ما نذهب إليه.ثم ألا تضعنا تجربة الشاعر الألماني راينر ماريا ريكله في صلب تجربة التيه والعزلة..
و يقول الشاعر أيضا:
هناك حيث أنا -لا أنا/ حيث تعبر كل الجموع إلى وهمها/ وتبحث عن زمن/ يلملم ما يتساقط من يومها/ هناك أنا../ كائن ما../ غد ما../احتمال احتفال..(120)
إن بحث الشاعر هنا عن كينونة ما، وعن غد ما هو في عمقه بحث عن الإمكان والاحتمال الذي يشير أدونيس أيضا على أنهما عنوان المستقبل.
وأخيرا فإن ديوان الشاعر المغربي عبد الحميد شوقي " كنت أهيئ صمت الانتظار" رغم ركوبه مطية الصمت فإنه كان في عمقه ضاجا بقلقه و بأسئلته الكبرى التي ترنو إلى البحث عن الأجوبة الشافية الموصلة إلى الحقيقة الغائبة،عن الاعترافات الجارحة ،عن التخوم الجمالية الجديدة التي تحمل بصمات الخلق والإبداع وعن الزمن الجديد، المتجدد والرسالي الذي يحمل في ثناياه التبشـير والنبؤة بالمستقبل وبالتاريخ الذي يصـنعه الإنـسان ويـبدع صـفحاته..
نورالدين بوصباع- تيفلت/المغرب
الهوامش
* - عبد الحميد شوقي، كنت أهيء صمت الانتظار، الطبعة الأولى 2009،المطبعة السريعة(القنيطرة) المغرب.
** - د.عبد الرحمن محمد القعود/الإبهام في شعر الحداثة.عالم المعرفة.ع 279.مارس 2002. ص 104
| |
|