الشاعر الأصيل: محمد علي الرباوي
- مقدمة: ترددت كثيرا في خوض تجربة محاورة الشاعر المغربي الكبير الأستاذ محمد علي الرباوي.. لكن التجربة التي عشتها مع الشاعر المغربي الجميل الدكتور مصطفى الشليح، شجعتني على ركوب المغامرة، ومواجهة كل صعب... فأزلت التردد ، ومنحت نفسي لشعر هذا الشاعر الكبير، الذي وجدت فيه إغراء كبيرا وجمالا فياحا.. وتجربة تستحق الدراسة ، والتجلية...هكذا تولدت لدي الرغبة الملحة في معانقة هذا الشاعر... محاولة مني الإسهام ولو بجزء ضئيل في نفض الغبار عن هذا العلم المغربي... بالإضافة إلى محبتي الكبيرة لهذا الشاعر القدير...هكذا أجدني محاولا الانطلاق إلى عالم محمد علي الرباوي الشعري من خلال مجموعة من قصائده التي جمعتها من مجموعة من المواقع الرقمية.. محاورا نصوصه، ومحاولا تجلية شعريتها وفنيتها باتباع مناهج محددة.. منها المنهج النفسي، والإحصائي، والفني، والتاريخي بعض الشيء...مع الاستفادة من بعض الملامح السيميائية في تسليط الضوء على العنونة الموظفة، والقصائد المتن.كما استفدت من المنهج البنيوي للوقوف على التداخلات النصية، والتناصات المكونة للنص الشعري عند سي محمد علي الرباوي. - التجربة الشعرية عند محمد علي الرباوي:- مدخل:التجربة الشعرية صعب تحديدها كمفهوم، وكمصطلح.. فهي شيء نفسي داخلي... يحسه ويعيشه صاحبه.. وهي:"معايشة كاملة لإحساس معين بدءا بالملاحظة إلى غاية تخلقه فنيا في شكله النهائي، عالم له توهجه واقتداره على الحلول فنيا بشكل معين، يدفعنا دفعا إلى خلقه في إطار فني. كما تخلق معنويا على المستوى العاطفي، والفكري"[1].وكما هو معروف لا يمكن أن نطلق اسم التجربة الشعرية إلا إذا تحققت فعليا فنيا ، وشعريا.. وهي خاضعة للنجاح أو الفشل...والإبداع الأدبي مرتبط ارتباطا كبيرا باللغة... والأديب يتفاعل مع محيطه من خلال قراءاته الخاصة وملاحظاته، وتعامله.. وتأثر به وتأثيره فيه... ليمزج كل ذلك خالقا إبداعا لغويا يشتمل تجربته الفنية.. وانطباعاته ، وانفعالاته الخاصة... فمع:"تجدد الواقع واختلاف المواقف ، وتباين التجارب ، تمتزج التجربة الأدبية الفعالة، وتتآلف، وتسعى سعيا دائبا إلى اخذ شكلها اللغوي المناسب، الذي يجعل منها كيانا محسوسا جماليا"[2].فالشاعر يعتصر كيانه.. ليخرج عملا أدبيا، فنيا، يجعل المتلقي يتفاعل معه.. ويتأثر به.. لذا الشاعر :"خالق تجربته، ولابد له أن يعاني فيها من حين تخلقها في قلبه إلى حين اكتمالها، يعاني في معانيها وفي لغتها وصورها وإيقاعاتها ، يدفعه إلى ذلك في أول الأمر انفعال مبهم إزاء حقيقة من حقائق النفس أو حقائق الوجود. ويأخذ هذا الانفعال في التخلق والتولد عن طريق ما يحرك فيه من أحاسيس ويثير من أفكار وعواطف، وينقل إلينا ذلك في كلمات موسيقية لها دلالات مختلفة عبر التاريخ"[3].وهذه التجربة لا تكون سهلة.. بل هي صعبة الظهور.. وهذا يذكرنا بما كان يعانيه الشعراء في توليد وخلق قصائدهم... والتعبير عن تجربتهم الشعرية... فهذا الفرزدق كان يعتبر خلع ضرس أهون عليه من قول بيت من الشعر...كما نتبين جهد الأقدمين في تنقيح قصائدهم، والبحث عن العبارات المناسبة.. فظهرت الحوليات، والمنقحات... وما على ذلك..والتجربة الشعرية لا يمكن أن نصفها بالتجربة إلا إذا استوفت مجموعة من الشروط... صحيح أن التجربة صورة لصاحبها، ومرآة تعكس حياته.. ودواخله.. غنها صورة لما عاشه الشاعر ويعيشه.. هذا ساعد الناقد رتشاردز على تعريف التجربة الشعرية بقوله أنها:"نزعة أو مجموعة من النزعات تسعى إلى أن تعود إلى حالة الهدوء والسكون بعد الذبذبة"[4] .هذا يبين أن التجربة الشعرية ، مجموعة من الأشياء الفنية والداخلية المضمرة:"وهي الدوافع التي تهيئها الاستجابة التي تؤدي بنا إلى نوع هو بعينه من السلوك ، فهي بمثابة الناحية الخارجية من الاستجابة على أنه ينبغي أن نضع في الاعتبار أن هذا التهيؤ يحل محل السلوك الحقيقي، وهذا هو الشكل الأساسي للتجربة الشعرية"[5].بل يذهب الدكتور محمد غنيمي هلال إلى أبعد من ذلك، حيث اعتبر التجربة الشعرية، هي:"الصورة الكاملة النفسية أو الكونية التي يصدرها الشاعر حين فكر في أمر من الأمور تفكيرا ينم عن عميق شعوره وإحساسه"[6]. ولذا التجربة الشعرية شيء صعب ، لأنها تخلق شيئا غير مرئي، شيئا يرتبط بالوجدان، والمشاعر والانفعالات...ومحمد علي الرباوي ، تجربته رحلة لها خصوصياتها، ومميزاتها... وهي تجربة شعرية عالم قائم الذات.... تتميز بالفني، والوجداني فيها. إنها تجربة لشاعر وهب نفسه للشعر، والفن...ولذلك اعتبر الشعر في التجربة الشعرية قمة الوجود... ولذا لا نستغرب عندما نرى شاعرا كبيرا كمصطفى الشليح يعتبر التجربة الشعرية بحرا يغرق في بحر.. ليندف منها شعرا..."أصعد من كتابة الذات إلى ذات الكتابة ، وكأني ما صعدت.القصيدة تاريخ البراق الأول إلى المعنى..كتبت الذي لما تقله القصيدة لي ومحوت فامحيت...أكلما اهتديت إلى القصيدة اهتدمت التأويل عروجا إلى القصيدة؟...أكلما ارتديت الحروف طيوفا أشهرتني العبارة للحتوف سيوفا؟.أكلما عبرت المرايا شفوفا أحضرتني الإشارة للحكايا عطوفا؟...للقصيدة معناي أنا .. وما عرفت معناي..."[7]ويقول سعد الله أبو القاسم في قصيدته (هزار الشعر)[8]:كم من شعوب أضاء الشعر منهجها
إلى الحقيقة فانجابت دياجيها
الشعر قنبلة موَّارة لهبا
إذا تفجرت الأوزان تلقيها
الشعر معجزة الإلهام طافحة
من النبوغ الإلهي في سولقيها
الشعر باقة ريحان تصففها
أيدي الملائك والأحلام تهديها
لذا التجربة الشعرية معايشة يومية لكل ما في الكون من حقائق، وحياة... وليست كلمات متناثرة هنا وهناك...وهذه التجربة هي التي تجعلنا كمتلقين نطلق اسم"شاعر" على صاحبها...ولو تمعنا في مدلول هذه الكلمة ، لوجدنا أن الشاعر:"ناء عن البشر العاديين بالمعرفة التي يجهلونها، والتي يستمد منها اسمه ن منذ أن أطلقت اللغة العربية عليه اسم " الشاعر"، لأنه يشعر( أي: يعلم، يعرف، ويفطن) بما لا يشعر به غيره. وردت جذر الدلالة اللغوية لكلمة ( الشعر) إلى العلم والمعرفة والفطنة، التي لا تحتاج إلا للكائن المتفرد الذي يشعر بما لا يشعر له غيره أو يفطن أو يعلم"[9].وقوة التجربة الشعرية.. وتأثيرها في المتلقي ، تدفع إلى الاعتراف بالشاعر، وبشاعريته.. وقبول تجربته الشعرية.. وبالتالي نقول : إن التجربة الشعرية في أساسها تجربة لغة.. لأن الشعر هو استخدام فني للطاقات الحسية والعقلية، والنفسية، والصوتية للغة.. ولغة الشعر هي الوجود الشعري الذي يتحقق في اللغة انفعالا وصوتا موسيقيا، وفكرا.. وهذا ما دفع أحمد شوقي إلى التعبير عن الشعر عند شكسبير بقوله:شعر من النسق الأعلى يؤيده
من جانب الله إلهام وإيحاء
من كل بيت كآي الله تسكنه
حقيقة من خيال الشعر غراء
وكل معنى كعيسى في محاسنه
جاءت به من بنات الشعر عذراء
والحاج محمد علي الرباوي يحب شعره ن ويعتبر القصيدة جزءا من كبده وحشاه.. بينه وبين الشعر عشق تليد... وتجربته منفتحة على ذاته، وعلى الإنسانية والكون. وبالتالي فهو شاعر كوني.وكل قصيدة عنده هي تجربة خاصة، ولها مكانتها.. تتلبسه ، وتجعله في ارتباط تام معها..وعندما نقف إلى هذه التجربة الشعرية نجد أن لها بواعث كثيرة ، ساهمت في تكوينها، وتألقها...منها:[1] - شيرو، (عبد الكريم)، التجربة الشعرية عند أبي القاسم سعد الله، مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث، تحت إشراف الدكتور السعيد لراوي، جامعة الحاج لخضر بانتة، الجزائر، السنة الدراسية: 06/07، ص: 13[2] - الربيعي، ( محمود)، قراءة الشعر، دار غريب للطباعة والنصر والتوزيع، القاهرة، مصر، (د- ط)،1997، ص: 119[3] - ضيف، ( شوقي)، في النقد الأدبي، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط6، 1981، ص: 143[4] - رتشاردز، العلم والشعر، ترجمة مصطفى بدوي، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، ( د- ط )، (د- ت )، ص: 19[5] - المرجع نفسه، ص: 24[6] - الدكتور، هلال، ( محمد غنيمي)،النقد الأدبي الحديث: مصادره الأولى ، تطوره فلسفاته الجمالية ومذاهبه، دار مطابع الشعب، القاهرةط3، (د- ت)، ص: 390[7] - د. الشليح، ( مصطفى)،لك الأوراق... وكل الكلمات لي...مطبعة بني يزناسن، سلا، ط1، 2007، ص: 5[8] - أبوالقاسم، ( سعدالله)، ديوان الزمن الأخضر، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ( د- ط)، 1985، ص: 70/71[9] - د. جابر عصفور، ( أحمد)، غواية التراث، كتاب العربي، رقم 62، وزارة الإعلام، الكويت، ط1، 15 أكتوبر 2005، ص: 14 يتبع