مرآة أخرى لوجع الزيتون
(قراءة في رواية" جسر بنات يعقوب" للروائي حسن حميد)
سامي البدري
كثيرة هي الأشياء التي تسقط، لتختلط بأتربة العتبات وبصاق المترهلين، عندما يتحول الرب إلى مضغة لسد جوع الشهوة... وأيضا إلى سوط بيد العوران من صنّاع المعجزات! وهذا ما حصل مع وجع الزيتون ومن لحظة بدأ نسج أول خيوطه.. هل يعني هذا – بطريقة ما – أن العوران وحدهم القادرين على صناعة معجزات الوجع أم تراه هو قدر الأشياء العصية على الإنقسام على نفسها؟
أمن هنا انطلق (حسن حميد) الروائي في جلي ملامح (مرآته) لوجع الزيتون، وجع القدس وحيفا ويافا المكان في صورة قرية (الشماصنة) المكان؟ (لنلاحظ أن حسن حميد تعمد تغييب صوت الانسان (صاحب المكان) هنا "رواية جسر بنات يعقوب" باستثناء صوت الراوي الذي ركز صوته على رواية فعل اقتحام المكان من قبل المقتحم الغازي.
أرى أن عليّ أن أذكر هنا، وعلى الرغم من الجو التأريخي الذي إختاره الروائي كتكنيك لطرحه، إلى أن ما طرحته الرواية هو صورة للفعل وليس تأريخا له.
لنبدأ بعتبة الناص، العنوان والدال الإشاري الذي إنطلق منه الناص في حث مقومات الفعل على التمظهر والانفلات في ثنيات وجسد فعل الروي: جسر بنات يعقوب؛ فالجسر دال على فعل العبور والاقتحام والانفلات في جسد ما يليه من المكان: للتعرف على هويته والإحاطة بحركة شرايينه... وأيضا الإنكفاء على سيرورته،بحثاً وسبراً وتصنيفاً، تمهيدا للانقضاض عليه وإحتوائه وإعادة هيكلة مكنوناته ومقوماته ورسم جغرافيته المكانية والبشرية والاجتماعية والتأريخيه، عندما يكون فعل الاقتحام لغاية الغزو والإستيطان.
جسر بنات يعقوب، ومن الناحية الفنية هذه المرة، فعل إغواء للمتلقي للعبور إلى متن النص وسبر تفاصيل جسده وأقتحام مفاعيل إغوائه للاشتباك مع دانتيله وفك شفرته.. وهو أيضا توريط إغوائي، بما يوحيه الدال الأنثوي (بنات يعقوب) من إشارة جنسية مفتوحة الى التعددية الجسدية التي أوحى بها الناص عبر صيغة الجمع (بنات يعقوب)، إضافة إلى الإشارة الاكليروسية التي ينطوي عليها إسم يعقوب عبر تذكيرها بالنبي يعقوب وحادث أولاده، ليأخذ بتوقع المتلقي إلى فعل أعتى بدلالته وايحائه من (بنات يعقوب)، برمزهن وايحاءهن الأنثوي (الجنسي).
جسر بنات يعقوب، العنوان، إنجرار إستيفائي إلى منابت المكان، لا لتدويره إنما للغوص في مفاعيل كينونته لتوثيقها كشرط إزاحي.. وهو أيضا إستفزاز لحواف الضراوة التي تسكنه كشجن مستحب، يستوقف ولا يقف تحت نصل مرآته.. وإن سلمنا بهذا الإقترح كمدخل، فإن ثمة خيط سيبقى طرفه يتدلى ليذكرنا بموقع بيت وخان يعقوب عند حافة الجسر الذي لم يعبره يعقوب أو احدى بناته إلى الجهة الثانية من المكان (هوية وجغرافيا)... وظل الاربعه، مع مناصريهم، يدورون حول أنفسهم في الفراغ المحصور بين أطراف قرية (الشماصنة) ومدخل الجسر... هل هذا يعني لفظهم من قبل هوية المكان؟
سنتابع اشارات طرف هذا الخيط في أيام أخرى للمكان؛ وإلى ذلك الحين سيبقى يتأرجح بين أفخاذ بنات يعقوب وفسحة الإشراق التي تجود بها!
ما مساحة الإشراق التي تمنحها متعة عابرة تحت سقف وعلى صدر بلا هوية؟ وقبل هذا: الإشراق ممن ولمن؟
"""""""""""""""""""""""""""
لنترك الجسر معلقا في ذاكرة الوجع ولنبحث له عن مكان في تصور أو رؤية يعقوب وبناته..، الحقيقة أن تصور الإثنين له لم يزد على البعد النفعي للحاجة الآنية للجسر: يعقوب للجانب المادي والسلطوي وبناته لجانب متعهن الجسدية.. وبهذا فإنه مثّل متكئ الحماية وجدار العزل ليعقوب، ونافذة الإطلال على باحة المتع لبناته... ولهذا فإن تصور (المعسكرين) لم يتجاوز حدود سياج الذات وإلتوائها على حقل أعشابها التي تنبت بحسب مواسم الجدب لا مواسم الهطول.
هل كان هذا مبرراً كافيا ليقرن الجسر بإسم يعقوب وبناته؟
بربطه بآلية وجع الذاكرة ورشق المكان الإجرائي، في دفاعه عن وجعه ... نعم!
بأمر سلطاني ( من قال إنه ليس مزوراً؟) جاء يعقوب ليرهن الجسر إلى أفق رؤيته، كغازي للمكان، (حارس وضامن) وليحيله من نافذة عبور إلى سياج وطوق يحاصر لهو أشجار الزيتون ومراقصاتها لغيوم سمائها..، وسجان لا تفقه مراراته غير مطاردة أحلام عصافيرها.
ولكن، لأسباب لا تتعلق إلا بمرارت الجسد ولغته المحاصرة سيبقى إسم بنات يعقوب يحف بالجسر ويشاغل أيقونة بهجته، رغم أن يعقوب كان يعرف، ومنذ لحظة تلبسه بحلم (خروجه)..
(أن قدميه لا تتركان أثرأً في الدرب، كما أن قدمي سليمان عطارة لا تتركان أثرأً أيضأً، في حين تظهر أقدام أناس آخرين سبق وأن مروا في الدرب، كما تبدو آثار أقدام أغنام، وأبقار، وخيول؛ الأمر الذي جعله يقف مندهشاً مستغرباً ليسأل سليمان عطارة، ونظره ساقط على الدرب بأسى كبير:
(أترى الدرب يا سليمان، إنه يمحو آثار خطانا)!
فيضحك سليمان عطارة، وهو يقول له:
(هذا أحسن لنا يا يعقوب)!
فيجيبه يعقوب مستفسراً:
(أحسن لماذا، وهل نحن لصوص يا سليمان)؟! الرواية ص 171 .
وحدها الألقاب التي تعلق بذاكرة رموز المكان من دون أرضه.
""""""""""""""""""""
تحت وسادة العجوز – الشبح (التي تقبض على جميع خيوط لعبة الإستباحة... إستباحة الذاكرة) ثمة وصية رسمت تعرجات خطوطها عرافة تلازمها رغية كالورم... لا تقودها إلا إلى رغباتها في الإستباحة والقبض على عشب السراب.. وأيضا ثمة صوت من أقصى صحيفة تلك الوصية..
ذلك الصوت رسم ملامح يعقوب وعرج نواياه في خارطة الاشياء... وأمنيات تلك العجوز أيضا.
ثم جاءت ولادة بنات يعقوب لتكتمل صورة وجه تلك العجوز ووجه يعقوب.
هل كان هذا قدراً؟
المبصرّون في حركة النجوم ومواقعها، وطيران الطيور وهجراتها، ودوران الرياح وأؤباتها ينفون هذا... ولكنه حدث تحت جسر ينام على نهر الأردن... على طرف قرية مهملة على حفافيه... وعلى مرمى حجر من دير لم تهجع فيه لا نوايا الرب ولا حدس راهباته ولا وداعة زيتوناته!
الكل قال كنا هنا، بما فيهم الأخت مرجانه، التي ما تزال شهواتها تتعلق بأهداب عينيها الراجفه!... فدائماً سيبقى هناك حنّا مُشاغل وظل فاغم على حافة غدير ناعم!
هل هو قانون الأشياء؟
من يسأل لماذا؟!
هل لأحد الحق في هذا السؤال؟
أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال ستقودنا للتساؤل: إلى متى للزيتون أن يصبر على وجعه؟
العجوز/ الشبح تدعي احتكار الإجابة على هذا السؤال.. وتضيف أن يعقوب يـ...
"""""""""""""""""""""
(لم يكن وصول يعقوب وبناته إلى جنوب قرية الشماصنة لافتاً للانتباه! الرواية ص 63)، لأنه لم يكن ينطوي على غير ما رُسم له ودفع إلى نثره بين أحراش عليق أطراف قرية الشماصنة..
(على مقرية من المقلع، وقد علا صوت نقر الحجارة وصقلها، يسأل يعقوب سليمان عطارة:
" بماذا يذكرك هذا النقر يا أخي سليمان"؟
فلا يجيب سليمان عطارة لكأنه فوجئ بالسؤال بل يهمهم مرددا كلمته " النقر، النقر" ويضيف يعقوب سؤالا جديدا حين يقول:
"ألا يذكرك بيوم القيامة"؟
فيقول سليمان عطارة مندهشاً:
"القيامة! وما دخل القيامة بالنقر"؟!
فيقول يعقوب موضحاً:
"النقر نداء وانشغال،
وبوق يوم القيامة نداء وانشغال، أليس كذلك"؟!
ويشير سليمان عطارة له برأسه أنه لم يفهم شيئا.. حينئذ يأخذه يعقوب من كتفه ويرجوه أن يقف ليشرح له فكرته، لأنها جديرة بالوقوف:
"علينا أن نوحد نداءنا، يا سليمان، لكي تقوم قيامة الناس في هذه المنطقة! حين نوحد نداءنا، وتقوم قيامة الناس هنا يظلّون أمامنا منتظرين ما سنفعله، يظلون على قلق وخوف وترقب... ونحن نفعل ما نريد وما نشاء، وهم في تسمّرهم وقد شل الخوف خطاهم وحركتهم)!
ومازال النقر الذي بدأه يعقوب يشغلنا ويؤجج قيامتنا والزيتون يئن تحت ثقل وجعه... وبنات يعقوب يتسكعن في بساتين الشماصنة، بعد أن غمزن لجسرها غمزة الانتظار لدفء فراء أفخاذهن!
هل هذا ضرب من انسكاب الذات على حوافٍ من دهشة الفعل بدل غمر رد الفعل؟ هذا سؤال يتطلع لاجابةٍ منا، نحن أصحاب الوجع!
""""""""""""""""
في أسفل خرج يعقوب، الذي يثقل كاهل حماره بضجة أزيزه، ثمة صرة لأحلام وإحتمالات يعقوب وتذيلات حدوسه ومراميه..
وفي قلب هذه الصرة ثمة صدفة حائلة الملامح: رائجة بتشابكات ندائها، ضنينة، وصوتها واحد!
الصدفة مكافئة الرب، تقول العجوز/ الشبح المتسلطة، وصوتها قاطع!
لا يعقوب ولا أي بناته... بل ولا حتى سلمان عطارة سمع شيئا من وشوشات الصدفة..، ولكن ومع ذلك فإن الصدفة مازلت وستبقى في صرتها تحت وسادة يعقوب وفي جيب معطفه ... بل وتحت جلده أيضا، كصوت فصل يقول ويشير إلى كامل مساحة الضوء الذي يراه وحده! وأول ما قاله هذا الصوت هو:
جوديت: (وكيف لا تعرف أسماء الأمكنة والنباتات والأشجار يا أبي وهي لنا)؟
وتزيد في إلحاحها كسكين تحفر مجرى لها بهدوء: (وكيف تكون لنا ونحن لا نعرفها)؟ الرواية ص 112 .
وما من إجابة غير: (هم أهل عاطفة، يشاهدون فينفعلون، الرواية ص 113)!! هل هذا ما وشوشت به الصدفة ليعقوب أم للعجوز وحدها؟
الحمار يقول لقد حمّلني يعقوب الكثير وأخيراً جاءني الخلاص على مذبح شجرة البلوط!
ممن تخلص الحمار ويعقوب مازال يتعقب وشوشات تلك الصدفة التي تقبض عليها العجوز؟
ربما الحمار وحده الذي تخلص من عبء صرير تلك الصدفة!
تخلص الحمار من عبء حمله، وتخففت واستكانت جوديت، هي الأخرى من ضغط السؤال الذي فجرته بوجوهنا: هل نحن فعلاً أصحاب عاطفة نشاهد فننفعل؟
السؤال ما زال معلقاً أمام انظارنا..، ونحن مازلنا نقف على موقع أقدامنا عينه... والزيتون مازال يئن من الوجع عينه... وجسر الشماصنة يئن هو الآخر دون أن نحدد إن كان سبب أنينه خطايانا أم خطايا بنات يعقوب!
""""""""""""""""""""""""
أن يموت يعقوب في حادث عرضي، كحادث موته، أمر لا يفاجؤنا لأن يعقوب لم يكن أكثر من أداة في مشروع..، وكذلك أمر انفلات بناته في خاصرة ذاكرة جسر الشماصنة ونزلاء الخان، ذلك الانفلات الذي كانت تبارك العجوز/ الشبح مفاعيله وانعطافاته في جسد المكان.
هل كان يعقوب أضحية أخرى كحماره؟ من ضحى به ولمباركة أي شيء؟
هل سر موت يعقوب وحيازة بناته لقيادة المشروع الذي كان أداته بيد العجوز/ الشبح؟
حسن حميد، كناص، يقول ان اجابة هذا السؤال ظلت موزعة، كما وزع يعقوب لحم أضحيته في زوايا المكان، تنفيذاً لأمر إلهي تلقاه!
لحق يعقوب بحماره وظل جسر بنات يعقوب (لا جسر الشماصنة) كسكين تحفر مجرى لها بهدوء... وظلت أطياف العجوز الشبحية تطارد أخيلتها، بحثاً عن أضاحي جديدة لجسر بنات يعقوب!
مرآة أخرى يقترحها حسن حميد لوجع الزيتون الذي يصر على التمسك بوجع جسر الشماصنة!