وجهي الآخــــــــر
عبد الحميد شوقي
إلى سيدة النبل الراقي فتحية الهاشمي
كنتُ انتظرت بريدي
لم أجد خبرا عن أصدقائي
ولم أعثر على قدري
وكنت أعددت شايا للندى القمري
ولاحتفال دمي في سهرة التيه ..
قلتُ انتظرني
سآتي من رحيق يدي
لأحتسي ما يصب الليلُ في شغفي
يا أيها الزمن الممتد في بصري
يا أيها الزمن المشروخ في رئتي
فتشْ :
هنا بعض خبزي .. بعض ما تركتْ
مجهولةٌ من شذى في غرفتي ..
وهنا ما يجعل الوقتَ مسفوحا على لغتي ..
يا أيها الأرق المنذور لامرأتي ..!
ماذا ترى ؟ :
شجري سرو
وداليتي معَدّة لاعتصار الشوق ..
لون دمي خمر .. ضجيج فمي شطح على شفتي ..
كأنني لم أكن حين ابتدأتُ هنا
وحين مر قطار العصر ثانيةً
ولم يجدني على طول الرصيف .. ولم أعدَّ نفسي
لكي أمشي إلى شفقي ..
رأيت في الجهة الأخرى من الأفقِ
دفءَ الشتاء يحيّي موكبي
ورأيتُني
أعد نبيذا للضياع
ولم يحضر رفاقي كما اعتادوا ..
مضى زمنٌ
وكنت أولَد ليليا من الألقِ
ومن مواجع أوراقي وذاكرتي
أموت في كل يوم كي أعيش غدا
في غرفة تحضن الآفاق في قلقي ..
* * * * *
لونْ رؤاك على حد امتدادك
يا أنا ..
وكن خارج الأنساق ..
كن وطنا للطير .. أرصفةً للصمت ..
كن شفة للغيم ..
كن ما ستحكي البنتُ عن دمها
في ليل دخلتها ..
لا شيء يدهشني
غير احتمالك أنتَ يا أنايَ ..
أنا خلف التفاصيل موجودٌ .. يؤرقني
قيظ الظهيرة .. شمسُ العصر .. تنجبني
أوائلُ الفجر إذ تسري إلى أذني
وبائعاتُ الحليب تحت شباكي ..
أنا هنا
أسمع الأخبارَ .. يأسرني
صوتُ المُغَنْيات في المذياع .. يأخذني
لكي أعيش انفلاتي كلّ ثانية
وألمسَ الضوء في شهْقات أنفاسي ..
قلت : ابتعد .. اقترب ..
اِرحل وعُدْ .. سفري
إليكَ منفى ..شهيقُ الروح في الحجرِ
أُعيدني من رماد التيه .. أخلقني
من انسياب الحكايا في شراييني
أحب أن أشبه اللاشيء .. تغريني
أسطورة الكائن المصلوب في جبل الأولمب ..
أحرقتُ أسراري على وهجي
وما رأيت سوى وجهي .. ملامحُه
عشبٌ .. مصابيحُ حيٍّ .. غنجُ غانيةٍ ..
ما يصنع الفرح اليومي في لغتي
من شهوة لاحتواء الكون في الليل ..
يا وجهيَ الآخرُ المشقوق .. كم وهما
سترتقي .. كم زقاقا .. كم قرنفلة
ستختفي فيك .. كم أرضا ستحضن .. كم ليلا ..
وكم مطرٍا ..
يا وجهي القزحي ..!
الآن اُنظر :
نهاري أرجوانُ يدي
وحدي أنا
شاهق في مطلق الأبدي
من دهشتي زمني
تغريبتي وطني ..
هنا أعيد انتشاري من مزاجاتي
ومن مشاتي الليالي في مساءاتي ..
يا وجهي الآخر ..
اشربْ من فمي :
سأمٌ
هذا المساءُ
يمر العابرون ولا يلقون وردا
على صمتي .. وأوقفهم
كي أستحق مزيدا من خواطرهم
وأستحق نساءً ينتشرن على
دفق الشوارع والأمطار في حلمي ..
قالت فتاة :
عليكَ اللعنةُ .. احترقتْ
أصابعي وأنا أستل كبريتي من سترتي
هل ستغريني بأمسية سكرى
لتكتب شعرا ماجنا
فمُكَ المحمومُ ما زال مخمورا على شفتي
وأنتَ تبحث عنكَ تحت خاصرتي
وتقرأ العبث الفني في جسدي
وأنت تبحث عنك في شذى عنقي
وتحتويني شلالا من العطش ..
يا أنتَ يا وجهك المسفوح في عبقي
ماذا تقول لآهاتي التي احترقتْ
وأنت تصنع فوضاك الجميلةَ من عصير نهدي
وما ينهال من عرقي ..!
ولم أقل أي شيء
كنت أبحث عن مأوى لوجهي
وعن سقف لأسئلتي ..
ومن بعيد تجيء الريحُ .. توقظ في وعيي
ظلالا لأشخاص يحاصرهم
ليلُ الكآبة .. حيث الموتُ في قدح
والفجر يجثو على حبل الكلام ..
ولا أرى سواي ..
لوجهي لذة الجرحِ
وشهوة البوحِ .. موالُ الأساطيرِ ..
أقول للشبح الآتي من الريحِ :
خذ فلفلا ..ارسم زمانا موحلا ..
شجرا مثرثرا .. حانة مهجورةً ..
سترى وجهي
وما يشبه عري الصغار على
أسوار مدرسة مغبرة الساحة ..
هنا أنا ..آخرٌ .. طيفٌ لمن رحلوا
ومن يجيئون ..شخصٌ غامض ..
قمرٌ يحل في آخر الأيام .. تسبقه
محافل الروح .. يبكي تحت نافذتي ..
كلُّ الزمان مباحٌ لي
أقيس على آناته ما سيأتي أمسِ
حين أتى غدا
وأهدي ليومي طيفَ تكويني
وأرجوانَ المدى في شكل تكويني ..
لا شيء يأتي وكل الأرض شاردةٌ
في مقلتي ..
أنا الحاني على وجعي
عصرت كل الأماسي في أناشيدي
وما تركت سوى شكي على شفتي ..!!
مارس 2009