نورالدين بوصباع عضو
عدد المساهمات : 19 تاريخ التسجيل : 19/09/2009
| موضوع: توقعات صغيرة 19/9/2009, 22:12 | |
| توقعات صغيرة
" قبل أن يكون العبور كانت القنطرة، وقبل أن تكون القنطرة كانت الهاوية، وقبل أن تكون الهاوية كان الفراغ" كلام بوهالي
للفراغ وجه لم تتغير ملامحه مذ عرفته.عينان شاخصتين بانكسار طول النهار تلاحق مواكب الغرباء بلا كلل وهم يعبرون القنطرة المعلقة بين ربوتين يتيمتين نحو نبع الماء.ينظر بإمعان إلى وجوههم الشاحبة بأسى ومرارة، يتأفف، يقلب شفته السفلى بامتعاض...أشجار الزيتون الملتحفة بخضرتها وهي تتمايل يمنة ويسرة تشعره بالحياة والآمان، وأي أمان بل هواجس لعينة تلتهب في دواخله لا يجرؤ على ردها كلما فكر أنه وحيد يدور في فلك مشحون بالفوضى والتقلبات.لاشيء يملأ العين.لا كلام يغري بالإصغاء..لابد أن يجتاز الغرباء القنطرة بحذر حتى يصلوا الماء..الماء يضيع كما تضيع المسافات في لحظات الغياب.يتسلل بين الشقوق.ينفلت مم بين تفاريج الأصابع قطرة قطرة..يحدق بتثاقل وسأم..الغرباء يلعقون الماء من بين أصابعهم ليطفئوا غلالة عطشهم أما هو فعطشه لن تطفئه كل مياه الدنيا، وفراغه لن تملئه كل العيون الزرقاء المتدفقة من رأس الجبل..حالة القنطرة المعلقة بين الربوتين لا تبعث على الارتياح والثقة.شقوق عميقة تغزو الجنبات، لكن الناس يعبرونها صباح مساء دون أدنى خوف أو تردد وهم يحملون بين أيديهم أو على ظهور حميرهم لوازمهم.أما السيارات والشاحنات فتمر بسرعة جنونية تنخطف لها قلوب الناس المارين بجانبها وحتى أغصان الزيتون تهتز وكأنها تستنكر ما يقع .ما يحدث من إزعاج يحرق الأعصاب، ويولد في النفس نار الحقد والقسوة، وعندما يحل الظلام تزداد الخطورة تصبح القنطرة خيطا واهيا يفضي للهلاك.بئرا سحيقة تنبعث من جنباته رائحة الموت الزؤام " لا لا أحب موتا مجانيا .لا تدفعني أيها الفراغ أن أركب الموت.لا تزال لي فسحة من الأمل وزاد من الإيمان ألا أقدم على ركوب القنطرة هذا الليل " أصمت، وأبتلع غصة، أضع كفي على جبيني أتحسسه، أهم أن أصرخ لكني أتراجع.الصراخ سلاح الضعفاء.من يدفع نفسه إلى التهلكة وهو يعرف ذلك برئت منه السماء والأرض.لا ينفع الصراخ.لا يجدي نفعا.أليس من الأفضل أن ألزم مكاني تحت شجرة الزيتون حيث وُلدت حكايتي ذاك المساء المكهرب من خريف ذاك العام المنحوس.الأشجار أعلنت ألا تهدأ طول النهار .الغبار أصر ألا يحتجب من أمامي.أينما أُولي بصري أجده.مضى وقت طويل كما لو كان كابوسا رهيبا، دغدغت فرائصي كل الصور التي مزقتها كي أنسى، طرقت رأسي أفكار لعينة، امتلأت سخطا ونقمة على نفسي، وعلى العالم حولي، زفرت بقوة وأنا أمعن النظر في الجسر.ليست هذه اللحظة لأستسلم لمثل هذه الأفكار.هي طريق الأفكار لا تفضي إلا إلى الجنون.فوضى من التصدعات تقسم الرأس نصفين.سرت اعد أصابعي واجد ..اثنان..ثلاثون خريفا قضيتها أطارد...أبتسم ابتسامة فاترة ومكسورة..يخض لها الدماء في عروقي وتشتعل النيران في أحشائي.ماذا كنت أطارد! أشباح تتسربل بحلكتها دون أن تتركني أدقق النظر في تفاصيلها ولو مرة واحدة. غرباء يحملون على ظهورهم أقدارهم، يترجلون الجسر نحو الضفة الأخرى حيث نبع الماء دون أن يعودوا.ربما سيعودون يوما ما، أخمن أنه قريب من قبضة يداي ..وفجأة أنتفض في جلستي، أروح أفرك ذقني بانقباض، كيف أنا لم أطارد أحدا في حياتي! ربما واحدة فقط ! ذاكرتي لا يمكن أن تخونني، حينما أضع نفسي على المحك أجدها إلى جانبي تؤازرني، تنتشلني من أعماق النسيان السحيقة.لا يمكن أن أنسى .أتذكر ذلك المساء الخريفي حين غلف الغبار أرجاء المكان برمته وكانت هي تعبر القنطرة بخطى متثاقلة وكأنها تحمل جبلا من العياء وكنت أنا متكوما تحت شجرة الزيتون أمد بصري بصعوبة وسط رذاذ الغبار الكثيف، أجوس بعيناي الشبه مغمضتين ربما تقعان على شيء ما ثم أتمتم " ارحمني يارب من وحدتي، بدد هذا الفراغ الجاثم فوق صدري، أبوء إليك يا عالم الأسرار، افتح لي صدري على سرك الخفي، املأ عيناي الفاجرتين بما تحبه وترضاه زينة الحياة الدنيا..الأرض عشيقتي..ملهمتي..نور عيناي..كتاب حياتي، لكن الأرض قلت وأنا في أشد حالات الارتباك " يجب ألا أفكر فيها، وهل أفكر في شيء لا ينبث غير الشوك! لا تتفتق من بين تعاريجه غير نتوءات حادة، مسننة، تفور دماءا ملونة..أحمر قاني..أحمر مفتوح..أحمر يتوقد كلهيب نار مقدسة، يبدو أني لن أعشق الأرض مادامت عشيقتي تصر على عنادها وكبريائها ألا تتركني أرى عينيها، أن أسبح في بحر عينيها.في فؤادي فراغ قاتم مع غيوم داكنة.حبل رجاء مقطوع مع نسيمات هواء محنطة، كم عشيقتي قاسية بنظراتها القاتلة ! ما من أحد يجرؤ على مراودتها على نفسها، لكن رغم ما تبديه من صمود سأحطم هذا الحائط الواهي ومهما كلفني الأمر.انتصبت واقفا وعيناي تلتمعان ببريق حاد.لم تعد لي طاقة على الصبر.على تحمل المزيد من العذاب.لا بد أن ألحقها نحو الضفة الأخرى ووسط هذا الغبار الكثيف.هي الفرصة المواتية، لا يمكن أن أضيعها، ترجلت والرياح تردني بقوة إلى الخلف، توقفت غير ما مرة، سأجن إذا فلتت مني.هذه الخطوات المتعثرة والشائخة لن تدركها قبل أن تغيب عني بالمرة.علي أن أسرع إليها.أُدرك أن هذا اليوم بالذات لن يتكرر مرة أخرى فمن زمن بعيد تخاصمت الأيام مع بعضها البعض، ثارت في وجه بعضها البعض، ألتقط أنفاسي اللاهثة وأواصل الطريق.من المستحيل بل من الجنون أن أتراجع.سيكون من العار أن أهزم..أتحسس طريقها فتستبد بي شهوة جامحة، تطل من عيني كعصافير، كفراشات حالمة، تنهمر من مسامعي كشلالات أغاني غجرية ترددها الآفاق.الرياح السائبة.خشخشة الزهور وهي تتمايل كلما هبت نسائم الصباح، أغرق في شهوتي حتى القرار ، أرى وجهها يتخضب بحمرة قانية ، وعضلات رقبتها تنتفخ ، أحاول أن أسكب عيني في عينيها ، لكنها تشيح بوجهها عني .هي لا تريدني أن أرى عينيها.عينيها بالذات هما ما أبحث عنهما لأطفئ هذا الجنون الذي ينغل في صدري، أقترب منها فتبعدني بجفاء، أمسكها من ساعدها فتهرب مني..غلى أي حد ستهربين أصرخ في وجهها واللعاب يتطاير من فمي كزخات المطر..اليوم بالذات سأمسك بك بكلتا يداي المخشوشبتين، سأمسك وجهك النوراني بحنو فأرسم قبلة حارة على شفتيك المكتنزتين وستنظرين إلي يتوسل ورجاء أن أدعك بسلام، ستفرغين عينيك في عيني، وسترين ، نعم سترين أحلاما وردية تنفض عنها غبار الزمن اللعين وأنت ترتجفين خوفا بين يداي كحمامة تكسر جناحاها ، سأرفع عقيرتي بالضحك حد الهستريا .مسكين.أن أضحك بهذا الشكل الجنوني لأول مرة كما لو أني لم أضحك قط في حياتي...سرت أحث الخطو نحوها مسرعا والغبار الكثيف يغمرني من كل ناحية.هي تظهر أمامي لحظة وتغيب لحظة أخرى..مسافة قصيرة جدا تفصلني عنها، فجأة يثقب مسامعي منبه سيارة قادمة من الضفة الأخرى فأضطر إلى التراجع إلى الوراء لأترك السيارة تمر.المسافة تكبر شيئا ما بيني وبينها.أتهيئ أن أركض لألحق بها ومرة أخرى يسد طريق القنطرة أمامي حشد من عابري السبي ل يحملون لوازمهم فوق ظهورهم وفوق حميرهم ، حاولت أن أتجنبهم لكن دون فائدة فقد كان عددهم كبيرا يصعب معها اختراقهم ، عدت أدراجي فاسحا الطريق لهم كي يعبروا القنطرة.. بدأ ت القنطرة تنهار ، تراجعت إلى الوراء مذعورا أصرخ بقوة ..ابكي والدموع تسيح على خداي.....
نورالدين بوصباع-تيفلت/المغرب | |
|