جلست قرب الساقية الجارية بمحاذاة بيتي احتسي كأس شاي المساء المفضل عندي و بيدي جريدة البيضاوي الأسبوعية استرق بضع نظرات هنا و هناك ، جرعة تتلوها جرعة إذا بي أراني أسبح في عوالم اعتقدت سلفا انني تحررت منها و راحت مع الوقت و تلاشت أوراقها مع خريف السنوات الماضية ، أدركت حينها أنني أتوهم فعل النسيان و أن كل الأوراق التي حسبت أنني مزقتها ما زالت في سجلها الأصلي.
انصرفت عن الجريدة لأجدني أتبلل بقطرات أفكاري المشردة الهابطة عليَ هذا المساء ، العائدة بي إلى سويعات الأمس ، لأراها أمامي ، عروسا في ثوبها الأبيض الثلجي ، عيناها المحدقتان فيَ تحاول قول شئ لم استطع تشفيره أو فهم فواصله المبعثرة كزخات الماء المطري في ليلة مقمرة .
أمطرت أفكاري و تلاحقت زخاتها المطرية في رسم معالم بدت لي و كأنها أنية الحدوث و الوقائع ، انتابني شعور ديكارتي غريب ، تشابك فيه الحلم و الواقع ، تداخل فيه الأمس مع هذا المساء الذي انتشي فيه بكأس الشاي اليومي المعتاد.
هي لا تعرف أنني لم اقدر على محوها من دواخلي و أن طيفها لا يفارقني كلما همت بي ذكراها و امتشقتني تفاصيل حكايتنا كما تمتشقني الآن.
ها أنا الساعة أعيد ترتيب الحكاية و انتشل الحرف من الحرف كي لا تعيدني الحكاية إلى ما قد طويت تفاصيله أو اعتقدت فعل ذلك به ، لا يهم، هي الأفكار تراودني بمحاذاة الساقية في صمت و أناملي تداعب كأس الشاي البارد ة شفتاه تدفعني للنقش في بياض ذاكرتي الهاربة مني اتجاه حكاية الأمس القابعة في تفاصيل يومي ، ها أجدني أبحر بلا سابق إنذار ، أتوهج مع الموج نورسا يخيط الحكي تلو الحكي .
اعرف جيدا أنني ما عشقت سواها و لن اعشق إلاها ، اعرف أن تواريخي توقفت في عينيها ، رغم كل ما جرت به المقادير و رسمت الأوقات فيَ من آلام ، هي باقية بقاء العمر في صدري الموشوم بالحزن و الغم.
كان لقاءنا الأول في صباح أحدي، لم اخطط له و لم يكن بالنسبة لي محط تفكير، القدر لعب لعبته فيه وحده الذي يعلم تفاصيل الأمور الأتية ، متحركة ، مشاركة ، تشعرك بإنسانية تعتقد في أول النظر أنها متصنعة أو مفتعلة ، في عينيها يرقد أمر ما يدفعك للحديث معها ، لم أبال في حينها ، لأنني ذو طبيعة انطوائية ليس بالمفهوم المرضي ، فقط أريد في اللقاءات التي تكون جديدة علي أن أكون مستمعا أكثر من متحدث ، الرغبة هنا للإستماع تبددت بل تولدت عندي حاجة دافعة للكلام و التقرب إليها بشكل لم اعهده فيَ من قبل ، ما ألامر ؟
استفسرت نفسي لم أعط ذاتي حق الإجابة ، استرسلت بكل عفوية في حديثي معها متجاهلا الحضور المتشكل من اصدقاء قدامي كنت لم ألتق بهم مند سنتين لظروف الدارسة بمدينة غير مدينتي ، كما أنني لم اترك لهم الوقت لشرح الوقائع و المهام التي قاموا بها في غيابي داخل الإطار الثقافي الفني الذي اعتبر مسؤولا عليه بالنسبة للقانون .
هي فقط التي كانت تتشابك في دواخلي ، تجرني للحديث ، للاستفسار عن أحوالها ، انتمائها ، انشغالاتها ، دقائق تمر، ساعات تتوالى ، لينتهي اللقاء مع الأصدقاء ليبدأ اللقاء الانفرادي بها و مرافقتها خارج الفضاء الثقافي .
-أسعدني الحديث معك
-نفس الإحساس .. و كأننا نعرف بعضنا البعض من مدة
-ربما تقارب الأفكار و نفس الظروف الحياتية هي التي جمعتنا
-قال لي مجيد : انك شاعر
-اعتقد ذلك
-الحقيقة أن الكل يحترمك
-الأهم عزيزتي أن يحترم المرء ذاته
-لي مدة مع الإخوة ، لم تحضر و لا حصة
-ظروف ما
-أي ظروف
-بعد إخفاقي في دراسة الفنون الجميلة كان من اللازم علي البحث عن عمل
-وهل وجدته
-نعم
-أين؟
-.......
ليشدنا الحديث و نحن معا نقطع الزقاق بعد الزقاق و الشارع تلو الشارع ، كأننا لم نقطع إلا بضع خطوات ، لنجد أنفسنا قرب مقر سكناهم ، هكذا أخبرتي ، لم انتبه أنني قطعت كل هذه المسافة لو لم تخبرني بذلك ، أحسست أنني لا أريد توديعها ، بحثت عن طريقة استطيع دعوتها فيها للقاء بها من جديد ، انتابني خجل في الطلب لولا هي.
-نشوفوك بخير
-كيف؟
-هات رقم هاتفك
-هل لي أن أعطيك رقم هاتف المكتب
-بكل سرور
-و أنت أليس لديكم هاتف
-بلى
نبادلنا أرقام الهواتف و تواعدنا على اللقاء من جديد ، لتتوارى بعيدا عن عيني بجسدها بقيت في دواخلي قابعة بظلها الذي في طريق عودتي إلى مقر عملي الجديد الذي هو مقر سكاني لطبيعة عملي التي تحتم علي المبيت فيه.
و انا اخطو في اتجاه الشارع المؤدي الى العمل لم تهدأ أفكاري في مراقصة ألفاظها الأخيرة لي (نشوفوك بخير) ، راودتني ألاف الأسئلة و علامات الاستفهام ، ما ذا هناك ؟ ماذا يقع لي الآن ، أي بحر أبحر فيه بأفكاري و أحلامي المنتشية بي هذا المساء .. خطوة تتبعها أخرى .. هي ، هي ، وجهها، ابتسامتها ، كلماتها المنبعثة من فمها كماء الورد المقطر ، اريج عطرها الملتصق بي ، أشياء و أشياء تنتابني بصورة لم أعهدها فيَ من قبل .
- ماهذا الإحساس المرهف الذي يتشكل في دواخلي؟
سؤال طرحته على نفسي مرات متعددة و أنا عائد لحالي ، فأنا لم أعد كما خرجت صباحا ، شئ ما في داخلي يتشكل ، يولد ، ما هو لا أدري .
الساعة تشير إلى الحادية عشر ليلا ، متمدد على سريري وبالي مشتت هنا و هناك ، كل تفكيري فيها هي لوحدها ، على هذا الحال تمر بي الدقائق و الثواني لأجدني أداعب قلمي المرمى فوق بضع وريقات بيضاء متناثرة فوق طاولة حجرتي الوحيدة ، لأناوش الحرف مع الحرف ، أشكلها فواصلا تخرج من صدري تباعا ..
(توفيتري
و الصمت مملكة
و انا فلك ضيعت عناويني
في دهشة الحلم
توفيرتي
و أنا وجها لوجه
نعيد ترتيب الحكاية ).
لم أتمالك نفسي إلا وسماعة الهاتف بين يدي و أناملي تركب أرقام هاتفها، لم أبال بطبيعة حياتها الأسرية و لم أعط حتى نفسي فرصة الاستفسار على أحقية الاتصال بها في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل.
-ألو..
-........
-من معي ؟
-..........
-تكلم و إلا أضع السماعة ...
لم أقو على النبس و لو بحرف لأقفل الخط و جبيني يتصبب عرقاً ، لا أدري كيف تصلبت الأحرف في جوفي ولا كيف انتشى بي الخجل.
صوتها هي ام صوت من هذا ؟ قد تتشابه الأصوات ، قد لا تستسيغ الوقت الذي اتصلت فيها فيه ، قد تتظاهر بعدم معرفتي ، قد و قد ، مجموعة من الأفكار تدور في الرأس ، أمسيت بلا مرسى أرسو عليها ، مشتت الذهن ، شارد الفكر ، نبضات القلب تتعالى كلما طفت صورتها في عين صدري.
انني اتذكر الآن كيف قضيت ليلتي تلك متقلبا في فراشي ، كيف تثاقلت على رأسي الأفكار و أيقظت ما كنت أعتقد أنه لن يقع لي أبدا.
أن أقع في حبها ، كان هذا الأمر مستبعدا عندي بالمرة، فكيف يا ترى حصل لي هذا؟.
سيمضي وقت طويل قبل أن أستطيع إدراك كنه تلك الأحاسيس التي جرتني إليها و تدفعني للبحث عن فرصة الهروب إليها..أحاسيس عادت تراودني بشكل مستمر و غريب لم أكن لي بها عهد من قبل.
عندما تكون بقربي في لقاءاتنا التي صارت شبه يومية يخيل لي انني امتلك العالم بين يدي و ان الأشعار و الفواصل تطلب ودي الأبدي ، فمذ عرفتها امتلكتني رغبة مستبدة في الحديث عن الذات و النبش في تفاصيل طفولية ، لم أكن أدري لماذا؟.. فعيناها المحدقتان فيَ لحظة الحديث إليها كانتا توحيان لي بالإبحار و الغوص في بحر الحكي و النقش اللامنتهي عن أيام صبايا و تيهي اليومي في أزقة مدينتي ..
كان حديثي عن الذات يجرني إلى الحديث عن الوطن و الشعر و أطفال مدينتي ، عن أحلامي التي سرقت مني ، عن ضياعي و عن أشياء كنت أعتقد أنها ملاذي الوحيد..
و ها أنا بين يديها كطفل يتهجي الخطوة الأولى ، يراود المسير ، و هي كأم تحنو بلطف على وليدها الجديد ، هكذا تبدو لي الأمور و وجهي لوجهها الثاقبة عيناه .
أأشرع لها كل أوراقي و أسافر بها في رحاب البوح المختبئة أشرعته في صدري ، أهواها .. احساس لا أستطيع اخفاءه ، لكنه الخوف يفعل بي فعلته كلما إلتقينها ، كلما تبادلنا أطراف الحديث و نحن نتسامر على عبر الشاطئ الذي سجلت على رماله قدمانا ألف خطوة و خطوة .
ما العمل؟
سؤال تشابك في دواخلي .. هل لي أن ابوح لها بما احمله لها من حب و ليكن ما يكون
قد عزمت كل العزم على ان انشر اوراقي بين يديها، فانا لم اعد اطيق كبث ما في دواخلي أو الصبر على توهجي العاطفي اتجاه عينيها كلما التقينا، احيانا اشعر و كأنها هي الأخرى تريد ان تنبس لي بشئ ما يعصر دواخلها ، انه الغرور الانثوي الذي يحول بيني و بين اعترافها لي ، هذا ما اعتقده الان.. لكنني علي ان ابوح، ان اكسر الصمت المعشعش فيَ.
الساعة تشير الان الى الثانية و نصف مساء المكان مقهى الحديقة العربية
هناك كان اللقاء الذي لا ادري كم هو ترتيبه في عدد اللقاءات بيننا و لكنني اذكره و كأني به الان يقع، ففيه انفجر صدري و سافر في عوالم انا الى حد الان لم اتسوعب كيف انفحر و كيف اختار تلك الفواصل التي لم اعهدها في انا المشتبع بالفكر المادي ، المتمركس في حياته، الرافض لكل احساس عاطفي يقزم من الذات و يحط بها الى الدونية ، لا ادري ، كيف بي انزع عباءة و ارتدي اخرى.