الكاتب: عبدا لجبار خمران
مسرحي مغربي, مقيم بباريس
للحوار حول تنامي ظاهرة كتابة القصة القصيرة جدا في الآونة الأخيرة، استضاف الشاعر ياسين عدنان في برنامج "مشارف" الثقافي على قناة الأولى المغربية، مؤخرا، القاص المغربي عبدالله المتقي. أحد القصاصين الجدد الذين باشروا الكتابة في هذا الجنس الأدبي الوليد. ولأهمية مضامين هذا الحوار الذي سلط الضوء على نقاش تدور رحاه بالمشهد القصصي المغربي والعربي عامة نُحَول أهم الخلاصات ووجهات النظر الواردة فيه من قول على الأثير إلى كتابة في متناول القراء.
نشير إلى أنه ليس هناك من تصرف في الحوار إلا ما اقتضته ضرورة الإنتقال من القول الشفوي إلى الكتابة النصية.
طرح ياسين عدنان مقدم ومعد البرنامج على سبيل الإفتتاح مجموعة من التساؤلات نجملها فيما يلي : - هل ضاق صدر كتابنا بالرواية والقصة القصيرة لينحازوا بهذه الكثافة لجنس إبداعي جديد ألا وهو"القصة القصيرة جدا" ؟ وهل بلغ هذا الصنف القصصي سن الرشد الأدبي ليحضى باعتراف النقاد جنسا قائم الذات ضمن العائلة السردية؟ وما هي حدود القصة القصيرة جدا ؟ هل نشأ هذا الجنس الخلاسي من لا شيء، أم أن له سوابق أدبية؟ ثم ماذا عن علاقته بالشعر، الذي يشترك معه في العديد من الخصائص؟.
بخصوص السؤال الأخير وعن التماس بين القصة القصيرة جدا وقصيدة النثر. أجاب عبدالله المتقي بأن الأمر ليس جديدا، فحتى القصة القصيرة كانت تعد في بدايتها قصيدة غنائية. فإدغار ألان بو كان يقول عن القصة القصيرة بأنها ليست إلا مواد شعرية كتبت بأدوات قصصية. هناك تقاطع بين القصة القصيرة جدا وقصيدة النثر في مجموعة من الخصائص منها التكثيف ، الإختزال..الخ - وكورتزار أيضا يعد القصة أختا شقيقة للقصيدة - لكن على الرغم من ذلك يبقى الشعر شعرا و تبقى القصة قصة.
وعزى عبدالله المتقي دوافع الهجرة الجماعية للكتاب باتجاه القصة القصيرة جدا، إلى التحولات التي تعرفها الحياة بحيث أصبحنا نتحدث عن الإيقاع السريع والخدمات السريعة، وما الهاتف المحمول الذي اخترق حياتنا اليومية إلا رسالة قصيرة جدا. هذا الإيقاع لم يعد بحاجة إلى كتابة كولسترولية، ثقيلة. أصبح المتلقي بحاجة إلى رصاصة فارغة، أن يصل إلى الهدف دون رتابة أو مثقال. فهذه الهجرة إذن من أجناس أخرى - عبر ما يسميه بقوارب الحياة - إلى القصة القصيرة جدا من شأنها أن تقوي هذا الجنس الجديد، الذي مازال في إطار التجريب، وفي إطار محاولة تجاوز المؤسسة القصصية التقليدية. القصة القصيرة جدا مازالت قلقة ومازالت تعرج وتنبت ومازال ينتظرها مستقبل.
الكتابة بناء جمالي ومعرفي يقول عبدالله المتقي ، وهي اختيار وموقف. وعن مسألة استسهال الكتابة في جنس القصة القصيرة جدا يرى المتقي بأن جميع الأجناس الأدبية والإبداعية تعاني من هذه الآفة. والاستسهال يؤدي مباشرة إلى الرداءة في كل شيء. فإذا لم تكن الكتابة ألما ولذة. بل "ضربا من الصلاة" كما يقول كافكا، فلا يمكن تقدير مسؤوليتها. ومن هنا يأتي الاستسهال. الكتابة صخرة يحملها الكاتب ليصل بها إلى القمة. خاصة أنه أصبح لدينا قارئ منتج وقارئ عالم، والمهم أن يقيم هذا القارئ نصا، أهو جميل وأنيق . الجميل دائما أن نكتب نصا أعتبره شبيه بجملة مفيدة.
وبخصوص بداية القصة القصيرة جدا في المغرب فقد جعله المتقي في الثمانينات مع صدور أول مجموعة قصصية قصيرة جدا للقاص جمال بوطيب لتمطر بعد ذلك مجاميع أخرى، والتي أثارت انتباه المشارقة. بحيث تعد التجربة القصصية المغربية إلى جانب القصة القصيرة جدا في سورية، الآن، من النماذج المتميزة في العالم العربي.
أما عن كُتاب القصة القصيرة جدا بالمغرب فقد خص عبدالله المتقي القاص محمد تنفو بالقول : أنه قاص حرفي يشتغل على منجز قصصي بهدوء. فإلى جانب كتابته للقصة القصيرة جدا فهو قارئ عاشق للقصة. ناهيك عن انتمائه إلى جماعة تجريبية وهي "جماعة الكولزيوم"، وهو قاص لاذع و ساخر كتاباته أشبه ما تكون بالمرآة التي تعكس قسمات وجهك وكل انفعالاتك لكن إذا ما حاولت الإعتداء عليها ..قد تصاب بأذى..
وعن إمكانية تحقيق الأديب لذاته أدبيا من داخل جنس القصة القصيرة جدا فقط، فقد ذهب المتقي إلى أنه لأي كان الحق في أن يتخصص في أي جنس أو أن تتعدد كتاباته في أجناس مختلفة. لا مجال للقمع الأدبي أو مصادرة اختيارات الآخرين.
و عن الرواد الأوائل للقصة القصيرة جدا بالمغرب فمحمد ابراهيم بوعلو الذي نشر أول أقصوصة سنة 1959 يمثل لعبدالله المتقي ارتواءً قصصيا. وضرب مثالا بنماذج "أقصوصة في دقيقة" التي كان ينشرها بملحق احدى الجرائد الوطنية والتي جمعها في كتاب "خمسين أقصوصة في دقيقة" إلى جانب أقصوصات نشرت في مجاميع قصصية لكتاب آخرين كزهرة الزراوي و احمد الزيادي وغيرهم. وبالتالي لا يمكن إحداث قطيعة مع الجيل السابق. وقد رُد الجميل في المغرب للقاص والمحارب محمد ابراهبم بوعلو بتخصيص جائزة لمسابقة وطنية في القصة القصيرة جدا بمدينة الفقيه بن صالح تحمل اسمه. إننا امتداد للجيل الأول من القصاصين الذي استنبث هذا الجنس يقول المتقي.
وعن سؤال تأثر القصاصين المغاربة الجدد بكتاب أمريكا اللاتينية في جنس القصة القصيرة جدا وضح القاص المغربي بأنه كتب أقصوصاته قبل أن يطلع على الترجمات أو عن الأنطلوجيات القصصية ك"بحثا عن الدينصور" لكتاب امريكا اللاتينية أو "ندف النهر" التي احتوت نصوصا لكتاب اسبانيين ومغاربة. وربما يعود ذلك إلى لاشعوره القصصي، وللسرود ذات النفس القصصي لجبران خليل جبران، و للثرات السردي القديم : أخبار الحمقى والمغفلين..كل هذه السرود القصيرة جدا كانت تحفيزا ليصاب المتقي بلعنة القصة القصيرة جدا.
وتعليقا على قصة قصيرة جدا لإدواردو غاليانو قرأها ياسين عدنان بعنوان "الخوف"[1] قال المتقي أنه لابد من وجود دلالة بالقصة. فرؤيته تتلخص في أنه لا وجود لكتابة مجانية أو عمياء، و إلا سنكون كمن يحطب بالليل. ثم لا ننسى أن أمريكا اللاتينية الآن تعد رائدة في هذا النوع الأدبي. وذلك يعود إلى التراكم التاريخي . فلا يمكن أن نحاسب القصة القصيرة جدا في المغرب وهي ما زالت بعد طفلة مخنثة تحبو. وينبغي أن نكون مسكونين بثقافة التفاؤل.
ثم قرأ بعد ذلك بطلب من ياسين عدنان قصة بعنوان " فوطو كوبي"[2] المتضمنة بمجموعته : "الكرسي الأزرق" والصادرة عن مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب. وتعليقا على قصته هذه، ذهب عبدالله المتقي إلى أن القصة تحتوي على شخصيات وحدث.. وهذا يعطي للقصة القصيرة جدا مشروعيتها كقصة، وليس كنفي وتدمير للحدود الجمركية بينها وبين القصيدة. واستطرد أن هناك تكامل بين شخصياتها : الأم والأخت والراوي. يجمعهم وضع موبوء هو الفقر والجوع. ويعتقد المتقي أنه قد يكون [كقاص] ضمير الغائب في هذه القصة، وقد تكون الأخت : "أخته أو أخت من أحياء شعبية". الأساسي أنه حاول من خلال القصة أن يتفاعل مع هذا الواقع وأن يعريه ، وأن يحلم بواقع آخر ملمحا لما ينبغي أن يكون، رافضا لما هو كائن.
بعد الإنخراط في هذا التحليل تمت الإشارة إلى الجانب الديداكتيكي وكيف أن القصة القصيرة جدا من شأنها - إذا ما أدمجت داخل الأقسام التربوية - أن تفتح شهية التلميذ للتعامل مع النصوص و الإستئناس بالقراءة. خاصة أن وضعنا مخجل فيما يخص هذه الأخيرة كما بصرح. ومن خلالها يمكن الوصول لأهداف تعليمية. كما أنه على الدرس التربوي أن يعانق ما يحيط به من أشكال جديدة حتى لا يحس التلميذ بمفارقة. فهو يتعامل مع أشكال جديدة في الواقع وعندما يدخل القسم يجد واقعا آخر.
------------------------------------------
هامش :
[1] قصة قصيرة جدا لإدواردو غاليانو بعنوان "الخوف" :
ذات صباح، أهدونا أرنبا هنديا. وصل إلى بيتنا في قفصه. فتحتُ له باب القفص عند الظهر. عدت إلى البيت في المساء، فوجدته كما تركته داخل القفص ملتصقا بالقضبان، فهو يرتعش من شدة فزعه من الحرية.
قصة قصيرة جدا لعبدالله المتقي بعنوان "فوطو كوبي" :
أمه تقبع في ركن من أركان الغرفة، تخيط بالإبرة محفظته الجلدية. أخته تلعب بدمية مبتورة الذراعين، نظر إلى تقاسيمه في المرآة كان صورة منهما. فقيرا هزيلا شاحبا وجائعا.