انفلونزا الكليبات
فوزي الديماسي / تونس
جريدة الحقائق " الحقائق الثقافية "
نافذة " الإتجاه المشاكس "
15/03/06
بين الفن و الخطل خيط دقيق رفيع ، وبين الإبداع و التهافت أمور متشابهات ، و من بين شقوق المتشابه طلعت علينا في عالم نسميه اليوم تجوّزا عالم الفن آلاف الأسماء و الأغنيات أو هكذا نسميها تفاؤلا و في القلب حسرة على ما فات .
فبالأمس تربّت ذائقتنا على الرحابنة و السيدة فيروز و الصبّوحة و وديع الصافي و صباح فخري و غيرهم من الأهرامات الفنية على امتداد الوطن العربي التي ملأت الدنيا و شغلت الناس إلى زمن غير بعيد ، و كان فنهم علاوة على الإطراب رسالة تنمّي الذوق الفني لدى جمهور المتلقين و تبثّ فيهم رسالات وطنية و قومية و هذا مرسيل خليفة شاهد على صحة قولنا ، و كانت أغانيهم تجمع بين الإمتاع و التثقيف و التعبئة ، و تحضرني هنا أغنية للفنان محمد عبد الوهاب تلك التي يقول فيها ” جايين للدنيا ما نعرف ليه ” أغنية على بساطة كلماتها تطرح قضية وجودية تربّي في الناس فتنة السؤال أو فتنة التفلسف كما يسميها الفيلسوف هايدغار و الفتنة هنا بمعناها الإيجابي ، فالفن الغنائي على أيام كوكب الشرق و نجاة الصغيرة و وردة الجزائرية و عبد الحليم حافظ كان رسالة خالدة تطرح قضايا و تزكّي الناس و تربيهم على قيم الحبّ و الخير و الجمال و الذوق الرفيع ، هذه الأصوات الناطحات السحاب كانت سببا مباشرا في الترقي بالجمهور من خلال ما تصدّره للناس من روائع فنية على جميع المستويات .
و مع عصر الصورة و انتشار وسائل الاتصال من انترنيت و فضائيات خرجت علينا أصوات مشوهة هزيلة تحكي انتفاخه الأسد ، فانسحب علينا نحن جمهور المتلقين مع هذه الفقاقيع الفنيّة قول كوكب الشرق : ” يا فؤادي لا تسل أين الهوى ، كان صرحا من خيال فهوى ” فبات الصوت الشجيّ و الكلمة الراقية و اللحن الرقراق في حكم الديار المهجورة مثلها كمثل طلل درس ، و لم يبق فيها بعدما كانت آهلة بالأحبة سوى ترجيع صدى لأيام خلت .
و دشنت بذلك الكليبات عصر الميوعة و التهميش ، و طفق العراء و الابتذال و الإثارة المجانية يغزون آذاننا و عيوننا و بيوتنا و أخلاق أبنائنا ، إنه تسونامي فنّي أتى على الأخضر و اليابس نسأل الله السلم و السلامة . إنه الطوفان الجارف لكل شيء : للكلمة الجميلة الهادفة ، و للحن الصقيل ، و للأداء الرائع ، و لقيمنا العربية الأصيلة و لمفهوم الحشمة و الاحتشام .
إنه الطاعون ، لقد حلّ بمفاصل الأغنية العربية فأصابها بالترهل و فقدان المناعة و قد بلغ عدد ضحايا ” أنفلونزا الكليبات ” آلاف الآذان و آلاف الأذواق ، و استغربنا لتهاون الوزارات المعنية القائمة على الشأن الثقافي ، إذ أنها لم تنسج على منوال وزارات الصحة فحرقت كل الكليبات أسوة بحرق الفراخ تحسّبا و حفاظا على جمهور المتلقين من سيل جارف لخصوصيتنا الحضارية و الثقافية و الخلقيّة .
ذهبت كل القيم الفنية أدراج الريح ، و غيّر بالتالي طاعون ” انفلونزا الكليبات ” الخارطة الفنية علاوة على المساهمة بالقسط الأوفر في تهديم صرح فّننا و تهميش شبابنا المدجّج بالإنبهار الهدّام . فبالأمس كان مقياس الجودة في عالم فنّي يحترم الكلمة و الأغنية و الجمهور قائما على ثلاث أعمدة لا رابع لها ” الكلمة / اللحن / الأداء ” و اليوم في زمن الإنبتات القيمي و القيمي، في عصر الفضائيات المتبرجة استبدلت الأعمدة بأعمدة أخرى ” العراء / الإغراء / الصخب ” أما الكلمات و اللحن و الأداء أصبحت أشياء لا ذكر لها و نسيا منسيّا ، إن هذا الداء القاتل انفلونزا الكليبات فعل بأذواقنا و قيمنا ما فعله الاستعمار بديارنا و شبابنا، و رغم ذلك لا يزال المتلقي العربي مقبلا على مثل هذا الفن الهابط رغم تيقنه من أنّ الكليبات أو الأغاني المصورة سلع فاسدة قد تجاوزت مدّة صلاحيتها ، نسأل الله العفو و العافية و نطلب من أحد زبانية هذا الفنّ السقيم على لسان هيفاء و هبي ” رجب حوش صاحبك عنّي ” و صاحبه ها هنا هذا الغناء الكريه من عدة زوايا نحصرها في زاويتين : زاوية فنّية و زاوية أخلاقية