ديوان " دمعة " للمغربية مالكة عسال
فوزي الديماسي / تونس
يمكن أن نقف على معالم المتن الشعري من خلال العنوان ، إذ العنوان نص يقرأ و هو عتبة من عتبات الولوج إلى أغوار النصوص ، فالوقوف على باب العناوين و محاولة فكّ مراتيجها اللغوية معجميّا هي لحظة إستراتيجية في فهم النصوص المثبتة بين دفتيّ الكتاب .
و العناوين الرئيسية و الفرعية عادة ما تحيلك زمن قراءتها و استقرائها على طبيعة المناخات الإبداعية التي ستطأها أقدام لبّك و ذائقتك معا ، فتخبرك بذلك عن مداخل النص و أروقته و منافذه . و للتأويل بعد ذلك أن يرسخ في أرض الصواب ما كان من بنات التهويم اللغوي / المعجمي المفارق . و ديوان " دمعة " للشاعرة المغربية مالكة عسال يوحي منذ العتبة الأولى بمعنيين متناقضين فالدمعة حمّالة وجهين في إطلاقيتها وجها للفرح و آخر للحزن ، و الدمعة بالتالي للحالتين النفسيتين عنوان : هكذا توحي القراءة المبدئية للعنوان الرئيس ، و مع الوقوف عند العناوين الجداول من قبيل " غصة " / " لا ترحلي " رحلوا " / مرثيّة " / " مغتربة " تتبدد السحب و يتخذ مناخ الديوان شكله النهائي ، إذ العناوين مجتمعة توحي تلميحا و تصريحا بأجواء سوداويّة تلفّ الديوان برداء من الصمت المثقل بالشجون و تعضد بذلك صدقية العتبة الأولى أو العنوان الرئيسي ، فالرحيل و الغصة و الرثاء مجلبة للدموع و مدعاة للحزن . لكن وجود عناوين / جداول خارج دائرة الحزن و لا تمتّ لعالم الشجن بصلة بل من عائلة مفهومية مغايرة تستوقفك و تحثّ في أرضك قافلة السؤال و هذه العناوين / الجداول من قبيل " ألق الحرف " / " أيها الشعر " / " الشعر "، تفتح بابا عن سؤال يبحث في بنية العلاقة الرابطة بين الشجن و الشعر ، فهل من مسوّغ شعري يجمع بين هذا و ذاك أي بين الدمعة و مسبّباتها و الشعر و محدثاته ؟ إنه سّر الديوان لا يكشف عن أسراره إلا لمن رام رحلة البحث بما توحيه من تعب و حيطة و حذر و معانقة للدروب المجهولة و الشموس .
معالم الحزن في الديوان اثنان لا ثالث لهما ذاتي و موضوعيّ و لعلّ الأول انعكاس للثاني و مرد هذا الحزن الواقع المتخشب المحيط بالعالم و الأشياء . فكلّ القيم جثث هامدة على حافة الوجود ، فالحب و الطفولة و المدنيّة أشياء مضرجة في النسيان مقابل انبجاس قيم الفر دانية و العدوانية و المنفعية و لعلّ هذا التضارب الصارخ و التناقض المفضوح الفاضح لعب الدور الرئيس في تهشم مواطن الفرح و بذور الارتياح لدى الذات الشاعرة الباحثة عن زمن غير الزمن الفيزيائي الراهن الملطخ بانسداد الأفق و موت الفجر الوليد ، ففي قصيدة " مدينتي " تصور الشاعرة حالة الإحباط الجاثمة على صدر الأفق الغارق في الليل حيث تقول :
يقتحم الليل البيوت
و الغرباء
يسكنون الأفق !
من الإفك
يحبكون المحاور
و في انتشاء
يغتالون الحرية حبنا .
و مما يزيد تجذير المقطع في طقوس موغلة في الحزن الناسل من راهن موبوء و مبنيّ على قيم مهترئة مثل قيم الإفك و الاغتيال الطرق التركيبية لبناء الأسطر الشعرية ، وقد لعبت بعض التراكيب دورا أساسيا في تصوير هول المصاب و أفعوانية الواقع المعيش ، و تردّي الزمن الفيزيائي و كذا الزمن النفسي ، فالسقوط يحيط بكلّ شيء ، و الليل يلفّ كلّ شيء ، و لعلّ الجملة / الفاتحة " يقتحم الليل البيوت " التي افتتحت بها الشاعرة قصيدتها " مدينتي " المحيلة على تبعات المدنيّة القائمة على قيم الفردانية و المنفعيّة حتى باتت الحياة ليلا ممتدا و البيوت له مسكنا ، تدلّل على عدميّة الحياة و الأشياء ، ففي زمن غلبت عليه الفردانية و العدوانيّة و حفّت به طبائع الاستبداد و الاستعباد المرتبطة بمتطلبات المدنيّة أي المدنيّة المناقضة للطبيعة الإنسانية بكل ما تحويه كلمة الطبيعة من معاني الأصالة و النفس الجمعيّ في التعامل مع الآخر ، فبات الليل بظلامه و ظلماته و مظالمه و سكونه الشوكيّ معربدا في أوصال أمّة واهية منطوية على ذاتها الجريحة ، يعيش فيها الفرد فردانيته المجحفة ، و يغدو بذلك الإنسان على مذهب الفيلسوف هوبز ذئبا لأخيه الإنسان ، و هذا مقطع من قصيدة " القدس و بغداد " يكشف عن ذئبويّة المدنيّة و نيوبها السامة :
عيون العالم تغفو
و الليل
يكتنف المدينتين
يهتك الأبالسة المجاد
و الغربان
تتملّك نقطة العبور .
ما تحت أقدامنا
ليس منّا
و ما فوق هاماتنا
غريب عنّا
أنحن من هذه الأرض
أم نحن عابرو سبيل ؟
و قد يزيد في استفحال الشجن الموضوعي و انتشاره في كلّ نصوص الديوان تلك التراكيب التي جاءت في شكل استفهامات أو أسئلة إنكارية ، تستنكر من خلالها الشاعرة بسخرية لاذعة أوضاع الأمة الجاثمة على أحزانها و مدنها الغارقة في الظلام ، و التركيب الاستفهامي " أنحن من هذه الأرض " يفتح أبوابه على عالم الشاعرة المنمّق بالدموع و الاستهجان و الحيرة العاتية التي تمثّلها الشعر كفعل نفسيّ تنفّس به الشاعرة عمّا يخالج دخيلتها من أسئلة حارقة بثّتها فيها وضعيّة الأمة أي تلك الوضعيّة المتردية ، فالشعر بالنسبة للشاعرة مرفأ يقيها رياح الضياع و التيه ، فكلما شعرت بالانهيار وجهت وجهها شطر الشعر علّها تجد قيه ما لم تجده في الأهل و الصحب و الأمة . و الشعر ذاته يعيش على طريقة الشاعرة أي يكتنفه التيه و الضياع في زحمة قيم أخرى تحتفي بزمن كسدت فيه سوق الكلمة ، و الشاعر / الشعر غريب في أهله غربة النبيّ / الأوطان على حدّ قول الشاعرة في قصيدة " ألق الحرف " :
أنا و أنت
نسير أغرودة مهجورة
همسة مشروخة
نبضة مكسورة