فوزي الديماسي روائي و ناقد
عدد المساهمات : 30 تاريخ التسجيل : 13/02/2009
| موضوع: رواية " غوايات شيطانية " للروائي الفلسطيني محمود شاهين 13/2/2009, 18:53 | |
| في بنية الأصوات : التعدّد / التوحّد
فوزي الديماسي / تونس جريدة الزمان
في سماء الملكوت تدور أحداث الحكاية ، و على ألسنة الشياطين تسرد الرواية ، و النص على بساطته و بعده عن التعقيد و التقعر اللغوي نص متعدد السجلات و متفتح على أصوات متعددة بعضها سليل التراث و بعضها الآخر منحدر من مخزون الثقافة الإنسانية ، و كثيرها متصل بالنص المقدس و يلعب الغرائبي و العجائبي لعبته بمعية الخيال المتوسل بعديد المتون المنتمية إلى حقل التراث بنوعيه القوميّ و الإنساني ، فالرواية في مجملها نص ناهل من عدة مصادر و متون من جنس القرآن و مدونات الصوفية ، يذكرنا في ردهات منه بمناخ رسالة الغفران و رحلة ابن القارح في أرجاء الجنة و النار ، و يذكي فينا قصة الإسراء و المعراج ، و يثير فينا قصة المسيح و مريم العذراء ، و تعمل هذه المنابع مجتمعة علـى تكوين نص” غوايات شيطانية ” في رحم لغة مشرعة على شعرية مّا خلقا بعد خلق ، فبين نص الروايةو رسالة الغفران متن الحكاية وشائج قربى و صلة رحم و كذلك نص “كليلة و دمنة ” فهذا كان على لسان الحيوان و نص الرواية كان على لسان الشيطان و بين هذا و ذاك كانت وسيلة الأديب أو الشخصية في عروجه لغة منتسبة لدفاتر الصوفية مع اختلاف في طرق الشطح و الحلول و الإتحاد ، و لكن يبقى الواقع المعيش بالنسبة للمدونات جميعها القادح و إصلاحه المبتغى و كان ذلك على طريقة ” الإعلاء و التصعيد ” التي جاء بها التحليل النفسي في تناوله لظاهرة الفنّ ، و كانت جملة الأسئلة الميتافيزيقية التي افتتحت بها الرواية عتبات و مطايا لولوج النص المفارق و المتن المجنّح في الفضاء حيث ملكوت الشيطان و زبانيته و رعيّته و عباده ، يقول الراوي على لسان الأديب في مفتتح الرواية : ” جئت بما لن تعبّر عنه الألوان ، و لن يعبّر عنه هذا الحالم ، و لن يعبّر عنه الشيطان ، و لن يعبّر عنه النثر ، و لن يعبّر عنه الشعر ، و لن تعبّر عنه الأغاني ، و لن تعبّر عنه بحور الكلام ، و لن تعبّر عنه الألحان ، جئت بما لن يعبّر عنه إلاّ الله جلّ جلاله السامي ، و مع ذلك حاولت مستعينا به ، فهو وحده القادر المعين الملهم المرشد المتسامي ” نص سيعرج فيه صاحبه إلى ملكوت الشيطان و بدعوة منه ، مطيته فيها اللغة / البراق و صاحبه فيها من سلالة الشياطين ، سيطوف به في ملكوته ، ملكوت العدل و الحب و الإيمان ، حيث الحور العين و من كلّ الثمرات ، يقول الراوي على لسان الأديب : ” و اختلست بعض النظرات السريعة لأرى ما يجري فوق الفج و إلى جانبيه ، فشاهدت آلاف الحوريات بين الأسماك الملونة و الضباء و الخيول و النوق السابحة ، و النوارس المحلقة ، و هنّ يلوّحن لنا ، و يرميننا بسحر الابتسامات الموحية ” فهذه الرحلة الغيبية المفتتحة بطقس صوفي متمثّل في نشيد مقدس ” و تنبّهت إلى صوت الملك ( يقصد به الشيطان ) يشرع في النشيد و التوحد ، و قد زاد عليّ بأن راح يحرك يديه و رجليه و يهزّ رأسه و كتفيه ، و يمد عنقه تارة إلى الأمام ، و تارة نحو اليمين ، و تارة نحو اليسار ، و شرعت الملكات في النشيد و الرقص أيضا ، فشرعت أرقص بدوري جاهدا قدر الإمكان لأن لا أبدو شاذا عن الجميع ” فهذه اللحظة الكرنفالية الطقسية على الطريقة الصوفية حاملة لوجهين مختلفين فالمتصوفة في شطحهم و ذكرهم و رقصهم ينشدون الحلول و الاتحاد بربّ العباد و في الرواية ينشد الأديب و صاحبه الشيطان الذوبان في ملكوت الشيطان حيث ستقام هناك حفلة رأس السنة الميلادية تلك التي حددها الراوي على لسان الأديب ايهاما منه على مذهب السرديين الواقعيين بواقعية الأحداث حيث يقول الراوي : ” حين أخد العد التنازلي نحو الساعة الأخيرة من عام 1994 يتناقص بوتيرة قاتلة .. ” فاللحظة الصوفية كانت تدشينا للإرتقاء من عالم المحسوسات إلى عالم الهيولي ، حيث سيعرج الشيطان بضيفه الأديب إلى العالم المفارق حيث مملكته ليشهدا الاحتفالات ، و لقد كان صوت أبي العلاء المعري في رسالة الغفران حاضرا بقوة و لا يعني ذلك بأي شكل من الأشكال أنّ ” غوايات شيطانية ” لمحمود شاهين هي عمل متماه مع رسالة الغفران و لكن للتناص حكمته في نسج الأشياء و خاصة تظهر محاذاة الفعل بالفعل ووقع الحافر على الحافر ظاهريا في قول الراوي على لسان الأديب: ” و كان كل شيء يتحرك وحده بقدرة الله ، فما أن نظر إلى طبق قاصدا شيئا منه حتى يرتفع بهدوء و يحلق في في الماء ليمثل أمامك ..” أنّ الرواية منفتحة على أصوات متنوعة و متعددة و مختلفة المصادر و الرؤى و المواقع حيث يختلط المقدس بالمدنس و الأرضي بالسماويّ و الاجتماعي بالنفسيّ و الواقعي بالخيالي و القديم بالحديث و الشرقي بالغربي و الذاتي بالموضوعي و الموجود بالمنشود ، و لقد حضر النص القرآني في هذا العمل بكثافة أولا من حيث الفكرة العامة للرواية ( المعراج ) و من حيث النسج على منواله ثانية في قول السارد على لسان ملكة الشياطين متحدثة عن أبيها : ” و عاش أبي خمسين ألف عام ، و بلغ و أمي من الكبر عتيّا ، دون أن ييأسا من رحمة الله ، و ظلاّ يسبحان بحمده صبحا و عشيّا ، فناداه الله في المنام ، قم أيها القانت ، إنّا لنهبك ما لم نهب ملاكا أو نبيّا ، انفخ باسمنا في فرج امرأتك ، تهبك بنتا و غلاما زكيّا ، البنت بسبع مثلها ، و الابن بسبعة مثله ، ليس ذلك على الله عصيّا ..” و يراوح نص الرواية في كثير من منعطفاته بين العالم الأرضي و الآخر السماويّ و يجمع في الأثناء بين المتناقضات ( الشيطان / الإيمان ) ( الماء / النار) و هذه المتناقضات هي حمّالة دلالات و رسائل مشفرة بثّها الكاتب في نصه القائم على الإيحاءات ، فأن يخرج علينا الشيطان بزيّ التقية على عكس الأديب المتفكه و المتفتك و الجاري وراء الملذات على مذهب بن القارح في رسالة الغفران و كأننا بالأديب ها هنا يحيا بجسد و روح ينتميان إلى الدار العاجلة على حد تعبير المعري ، ثم حضور الكنائس و المساجد فـي ملكوت الشيطان فـي قول الراوي على لسان الأديب : ” طارت بي لنحلّق معا على مسافة من شرفات القصر الذي بدا لي كلحن سيمفوني جسد في منحوتة كونية سامقة إلى ما لا نهاية ، تعجز اللغة عن وصف جمالها و قد تراءى لي للوهلة الأولى أنني أبصر مثلثا من الكنائس القوطية هائلة الجحم ، انبعثت منها عشرات الكنائس ..و حاولت ألاّ أفكر في الظواهر و أغرق في بحر جسد الملكة و أستمتع بجمال الحوريات و الكائنات الأخرى من حولي ، دون جدوى ، فقد تبين لي أن معجزة النار المشتعلة في الماء ماتزال تشعل دماغي ” فتعايش المتناقضات في هذا العالم الخيالي يمثل شيئا من الانسجام و التناغمية و يصوّر مثالية هذا الملكوت ، و لعلّ للتناقضات المتواصلة في النص دلالات ثقافية و حضارية تعكس رؤية الكاتب و رؤياه فأن يلبس ابليس زيّ التقية و يتزيّا برداء الوحدانية و يخرج علينا بالتالي أشد ايمانا من الأديب فذلك يكشف عن غايات الكاتب القصوى و المخفية المطلة من حذر على مدارات الرعب الأرضي ، و قد حضر النص القرآني أو الصوت اللقرآني هنا بامتياز و خاصة في قول الراوي على لسان ملكة الشياطين : ” و عاش أبي خمسين ألف عام ، و بلغ و أمي من الكبر عتيّا دون أن ييأسا من رحمة الله ، و ظلاّ يسبحان بحمده صبحا و عشيّا ، فناداه الله في المنام : قم أيها القانت ، إنا لنهبك ما لم نهبه ملاكا أو نبيّا ، انفخ باسمنا في فرج امرأتك ، تهبك بنتا و غلاما زكيّا ، البنت بسبع مثلها ، و الابن بسبعة مثله ، ليس ذلك على الله عصيّا ..”و تبد هنا سورة مريم حاضرة ، و هذه الأصوات المتعددة في النص و المتداخلة و المتقاطعة في آن تبشر بنص روائي مشرع الأبواب على نص كوني يؤسس لحوار ثقافي و حضاري مفتوح يعكس فيما يعكس أحلام كاتب الرواية عن طريق نظرية الإعلاء و التصعيد التي تمثّل شكلا من أشكال التنفيس عن الذات المكبّلة و المقهورة و قديما قال فلاسفة اليونان : ” الجسد قبر الروح ” و قبر الروح الطامحة للرقيّ و التعايش على أنغام الحب و السلام في هذا العمل السرديّ الواقع المعيش الذي لعب دور القبر لانعتاق ذات الكاتب من إنسيّته الجريحة و التي تجاوزت في شيطانيتها الشيطان الذي بدا في هذا العمل كائنا رائعا بكل ما تحويه الكلمة من معان
فوزي الديماسي dimassiroman@yahoo.fr | |
|