"تدجين" النص الأجنبي
د. تيسير الناشف
أحيانا توجد صعوبة على السامعين أو القراء في فهم نص من النصوص. يقع على طبيعة مضمون النص وصعوبة النص المسموع أو المقروء شطر من المسؤولية عن تلك الصعوبة. وتعزى تلك الصعوبة إلى عوامل أخرى منها تركيب الوعي الذاتي لدى القارئ (والكلام ينصرف الى السامع أيضا) الذي يجابه بهذا الوعي النص. عن طريق قيام القارئ (أو القارئة) بوعيه الذاتي بمواجهة النص يقيم واقعيا حاجزا له قدر من الفعالية حيال تدفق معنى النص إلى القارئ. عن طريق هذه العملية يحدث ما يمكن أن نسميه "تدجين" النص أو جعله مقبولا أو مألوفا أو تسويغه أو تعريبه في السياق العربي لدى الوعي الذاتي الذي يملكه القارئ. وبهذه العملية - عملية التدجين أو التسويغ - يجري إبعاد النص عن مضمونه الأصلي المراد أو المنشود أو المقصود. عن طريق هذه العملية يخضع إلى حد معين مضمون النص لفهم أو استيعاب الوعي الذاتي لدى القارئ. فالوعي الذاتي له انعكاساته على مضامين الكتابات المقروءة. وللوعي الذاتي سلم أولوياته فيما يتعلق بجوانب المضامين المقصودة التي يستوعبها.
وبناء على ما ورد لا تفي ترجمة الكتب والمقالات الأجنبية، وعلى وجه الخصوص "تعريب" هذه الكتابات - إن جاز التعبير - بغرض نقل المضامين المقصودة لهذه الكتابات إلى القراء بلغات أخرى. والسبب الثاني في عدم وفاء الترجمة بغرض النقل الدقيق للمضامين المقصودة هو أن تلك الكتابات الأجنبية تصدر عن الوعي الذاتي الذي يملكه المؤلفون الأجانب والذي لا يشابه ولا يماثل وأحيانا يناقض الوعي الذاتي للقراء من ثقافات وحضارات أخرى.
وذلك يقودنا إلى القول إنه لتحقيق قدر أكبر من فهم النص الأجنبي - وقد يكون الفهم الكامل في الميادين الاجتماعية والأدبية متعذرا - يجب رفع مستوى معرفة اللغة التي كتب النص بها. وبذلك يحقق قدر أكبر من الفكاك من قيد الوعي الذاتي وقدر أكبر من الدخول في الوعي الفكري الذي يوجد لدى صاحب النص الأجنبي.
والوعي الذاتي لدى الفرد العربي يتأثر تأثرا كبيرا بالفكر الذكوري الأبوي (البطرياركي). ومن الدارسين للمجتمع العربي من يعتقدون بان ذلك الفكر يهيمن على الوعي الذاتي العربي. هيمنة الفكر البطرياركي تفقد العرب وعيهم بذواتهم ويفقد ذواتهم ما لديها من الاستقلال الطبيعي. عن طريق رفع مستوى المعرفة باللغة التي وضع الكتاب أو المقال فيها يمكن تحقيق قدر أكبر من الإفلات من الفكر الذكوري الأبوي الآسر المقيِّد. إذ بتحقيق قدر أكبر من فهم النص الأجنبي يتعرف القارئ على وجود الذات الأجنبية غير الواقعة تحت سيطرة ذلك الفكر ويكتشف القارئ جوانب أكثر من ذاته المغمورة والمطموسة بذات صاحب الفكر البطرياركي، وذلك لأنه لا يمكن للقارئ أن يحقق فهم مضمون النص الأجنبي إلا إذا حقق قدرا من الانعتاق من سيطرة الفكر الذكوري الأبوي ولأنه أيضا لا يمكن للقارئ أن يحقق قدرا من الانعتاق من ذلك الفكر إلا إذا فهم ذلك النص.
إن مشكلة تحديد سهولة أو صعوبة فهم الكتابات المقروءة قد تكون أقل شدة من مشكلة قراءة هذه الكتابات. يمكن للقراءة أن تتفاعل مع المادة المقروءة تفاعلا ايجابيا ويمكنها أن تشارك مشاركة فعالة في تلك المادة. بذلك التفاعل والمشاركة يجري إقصاء خطاب المعنى الواحد الآمر المهيمن المملى إملاء الذي لا قدرة ولا جرأة لدى أحد على دراسته ومناقشته وتقليب الرأي فيه وتفسيره وانتقاده والتحفظ عنه. هذه القراءة المتفاعلة والمشاركة والواعية هي من دعائم الحوار الفكري الديمقراطي. في هذه القراءة لا يكون النص متضمنا للحقيقة التامة ولكن يكون محل تمحيص وانتقاد، ويكون واقعا تحت عدسة الدراسة. عن طريق هذه القراءة الواعية النقدية يقتحم القارئ آفاق الفكر غير المحدودة، لأسباب من أهمها أنه بهذه الطريقة في القراءة لا تعود سلطة عليا تقرر المعنى والمضمون وتقرر صحة النص. القراءة الواعية الناقدة تنطوي على اتخاذ نظرة جديدة محررة تحررا كبيرا إلى النص وإلى الذات وإلى الناس والكون. وبهذه القراءة الواعية الناقدة تصبح سيطرة الفكر الذكوري الأبوي مقيَّدة بدلا من أن يكون ذلك الفكر طاغيا آسرا.
وفي حالات غير قليلة تعتور بعض العيوب الكتابات التي تتناول قضايا التاريخ والمجتمع العربيين. لقد أسهمت في إيجاد هذه العيوب عوامل مختلفة منها سيطرة الفكر الذكوري. ومن هذه العيوب تناول تلك القضايا من منظور فكري واحد أو منظور طبقة اجتماعية واحدة وإغفال تاريخية الحوادث الإقليمية والدولية في شتى المجالات، وإغفال تعددية أبعاد الظواهر الاجتماعية، وإغفال انعدام الفراغ في التاريخ البشري.
ومن هذه العيوب أيضا قيام الكاتب عن علم أو غير علم بعزو المعرفة كلها إلى نفسه، وثقة الكاتب التامة بصحة مضامين كتابته، والنغمة أو الصفة التقريرية للكتابة بدون أن يدع الكاتب هامشا واسعا أو ضيقا لاحتمال الوقوع في الخطأ. أحيانا لا يعطي الكاتب وهو يسوق أفكاره وزنا كبيرا - هذا إن أعطى وزنا على الإطلاق - لما قد يرد به القراء على هذه الأفكار المفصح عنها بالأسلوب المذكور أعلاه.