ِ جمهورية الفوضى المنظمة
سامي البدري
كان من بين اخطر حلقات المشروع الامريكي في العراق ،تفتيت البنية الاجتماسياسية للمجتمع العراقي . وقد انصب جهد هذا المشروع على مرتكزين اساسيين : تمثل الاول في تقسيم المجتمع العراقي على نفسه ،على اساس هوياته الفرعية (عرقية ،دينية ،طائفية ،مناطقية) مع تذويب قصدي لهويته الجامعة ،الهوية الوطنية .اما المرتكز الثاني فقد تمثل في عملية صناعة الاقطاعيات السياسية والطائفية ،عن طريق تصنيع احزاب سياسية تقوم على الطائفة والعائلة والمجموعة السياسية (بالمفهوم الاقطاعي).ولا يخفى على احد ان القصد من هذا المشروع هو خلق حالة من التنافر والاختلاف والتشاحن ،التي تقود الى الفرقة بين ابناء الوطن الواحد ،بقصد تسهيل عملية السيطرة عليه ،عن طريق اشاعة اجواء الشك والريبة والكراهية بين كل قومية واخرى ،وبين كل مجموعة دينية واخرى ،وكل طائفة واخرى .. بل وبين كل عشيرة واخرى .
وقد سعت ادارة الاحتلال الامريكي الى تكريس هذا الوضع من اول ايام دخولها العراق ،من خلال اول خطوات اعادة بناء الدولة العراقية ـ كانت قد نسفت جميع قواعدها وبناها الارتكازية التي بنتها خلال الثمانين سنة الاخيرة ـ ومؤسساتها السياسية والادارية ،عن طريق نهجها التقسيمي الذي اعتمدته (على اساس العرق والدين والطائفة والمذهب) في توزيع الناصب الرسمية على الاشخاص والاحزاب التي جاءت بها لملء الفراغ السياسي الذي خلفته عملية احتلال العراق واسقاط نظام صدام ،من مجلس الحكم وما تبعه من حكومات ... الى الدستور الذي كتب لتكريس هذا الوضع ،وانتهاء بقانون الفيدرالية الذي سن على اساس اقطاعي (عرقي ،طائفي ...) وليس على اساس اداري .
النظام السياسي العراقي الجديد (المشروع الامريكي)
""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
من نافلة القول ان نذكر هنا بأن عراقا مقسما ضعيفا ،تتعدد فيه مراكز النفوذ وارادات صناعة القرار ،هو غاية مجموعة الدوائر والقوى التي خططت لعملية غزوه واحتلاله ،لما يوفره لها مثل هذا الوضع المشحون او (الفوضى المنظمة) من مناخ يسهل عليها احتواء البلد وقواه والتحكم بصناعة قراره وسياساته ،ويكرس لحالة احتلالها له . اذن هو مشروع (لبننة العراق)او مشروع صناعة نظام سياسي مشابه للنظام السياسي اللبناني المقسم الى اقطاعيات سياسية او مراكز نفوذ طائفية (حزبية او فئوية) على اساس الهويات الفرعية لمكونات الشعب . وكما هو الحال مع مثال الوضع السياسي في لبنان ،فان المشروع الامريكي الذي يبدو ،في ظاهره ،انه يهدف الى كفالة حقوق جميع ـ تحت دعاوى المظلومية من النظام السابق ـ المكونات الاجتماعية للشعب العراقي ،فانه في حقيقته يهدف الى تكريس نوع من الفوضى المنظمة ،من خلال تقسيم البلد الى اقطاعيات سياسية ـ طائفية وتوزيعها ، كمناطق نفوذ جغرافي / سياسي ، بين مكونات المجتمع واحزابها كحصص ،كل حسب حجمه وقوة تأثيره (العددي والمادي والزعامي) عن طريق آلية (مراكز القوى المتعددة) التي تتخذ من آلية التوافق والتراضي قاعدة للتوازن (توازن قواها على الساحة السياسية ) فيما بينها (كقاعدة لاقتسام مراكز النفوذ ومصادر الثروات ومناصب السلطة ومراكز صناعة القرار ،وفق مبدأ الاقطاعيات السياسية المحددة المعالم والمساحة الجغرافية لمنطقة نفوذ كل اقطاعية ) . ان اخطر وافدح نتائج هذا المشروع التفتيتي هو انه سينتج مجتمع مماثل لمجتمع الضرائر الذي يصنعه نظام تعدد الزوجات اللاتي يجمعهن بيت كبير واحد . فمثل هذا المجتمع (النموذج) تتحول فيه كل غرفة نوم الى اقطاعية مستقلة تستمد قوتها ومساحة نفوذها وامتيازاتها وسطوتها ومساحة تدخلها في عملية صناعة القرار العام للعائلة ،من نسبة جمال وقوة شخصية ودرجة غنى ساكنتها . ومثلها ،في دولة (الفوضى المنظمة) تتحول كل اقطاعية الى دولة مستقلة (داخل حدود الدولة الكبيرة) ،تتعادى وتتناحر وتتقاطع مصالح كل (دويلة) مع جاراتها ،ولا تتلاقى مصالح اقطاعيتين الا في النادر ،ومن اجل الحد من مساحة نفوذ اقطاعية ثالثة او الاضرار بمصالحها او الاستيلاء على جزء من ثرواتها . مثل هذا المجتمع الفئوي ،المنقسم على نفسه ،يكون تربة خصبة لبروز دور الزعامات ،المقدسة والمؤبدة القيادة ـ لايزيحها عن كرسي السلطة وزعامة الطائفة وحزبها الا الموت ـ التي تختزل قيمة ودور الفرد والجماعة التي تتزعمها في شخصها وفعلها السياسي والاجتماعي .. كما انه ،كنظام عام ،يحيل الحياة السياسية للبلد الى مجموعة من لعب المصالح ومكائد الضغط (التي قد يرافقها استخدام القوة احيانا) دفاعا عن مصالح زعامات ومتنفذي الاحزاب والطوائف والمجاميع التي تشكل مراكز الثقل في الخارطة السياسية . ومن جهة اخرى ،فانها تشكل الجو المثالي لاضمحلال دور مؤسسة الدولة الام ،بسبب تنازع الفئات الاقوى على امتيازات دوائر تلك المؤسسة ومخصصاتها المالية وصناعة قرارها وسياساتها ،وخاصة فيما لو دعمت ـ دولة الاقطاعيات ـ بالغطاء الدستوري ،كما حصل في تشريع قانون الفيدراليات والاقاليم ،الذي سيهيأ للفصيل الاقوى ،فرص الاستئثار باكبر قدر من امتيازات مؤسسات الدولة والتفرد بصناعة قرارها او الاستقلال الضمني (المبطن) عن سلطة الحكومة المركزية ،وخاصة فيما يخص الثروات الطبيعية ومواردها ،التي تقع داخل حدود الاقليم ،ورسم سياسات خارجية مستقلة له مع دول العالم الخارجي (شرع قانون الاقاليم والفيدراليات ان تكون لكل اقليم ممثلية مستقلة في كل سفارة للحكومة الفيدرالية) . مثل هذا الوضع ،سيحيل البلاد الى ساحة مفتوحة لنوازع واطماع وتدخلات اطراف ودول اقليمية ودولية ،ستعمل على خلق وتعميق اساب للخلاف والاختلاف لترجيح قوة ونفوذ فئة على حساب فئة اخرى تحقيقا و ضمانا لاطماعها ومصالحها على حساب مصالح واستقرار العراق واهله . ومع احاح وضغط عدم تساوي توزيع الثروات الطبيعية بين الاقاليم (الاقطاعيات) فان نصيب النزاعات والازمات سيكون موفورا بين الاقاليم ،وبين الاحزاب داخل الاقليم الواحد ،وبين المجاميع والتيارات داخل الحزب الواحد وهكذا دواليك ... الامر الذي سنتهي بالبلاد الى ازمة نظام ،ربما اعادة البلاد الى عهد الانقلابات العسكرية (التي عانى العراق منها اكثر من غيره من دول المنطقة) ،ولكن لتكون هذه المرة اشد قسوة واعمق اثرا ،لانها ـ في الاعم الاغلب ـ ستكون انقلابات اللون الواحد على باقي الالوان (مكون اقطاعي من لون واحد ،عرقي او طائفي او حزبي مذهبي ) ،والتي سيعتبرها كل مكون موجهة ضده او انه المستهدف منها لوحده ،الامر الذي سيجر البلاد الى حرب اهلية لا محالة .
محنة ضياع النظام العام التي تنتظر العراق
"""""""""""""""""""""""""""""""
قد يسعفنا (تراث) ازمة النظام العام في لبنان بعشرات من شواهد او صور الازمات الحزبية والفئوية والشخصية (الزعامات) التي قادت لبنان الى محنة (اللبننة) وحرب الخمسة عشر عاما الاهلية ،وحروب التدخلات والحروب بالنيابة الخارجية ،وحروب الدعم لطرف على حساب طرف ،وحروب وتدخلات اسرائيل المباشرة ،التي كان آخرها حرب تموز 2006 ،التي جاءت كنتيجة لغلبة او تعاظم قوة الاقطاعيات السياطائفية على قوة الدولة ،والتي بلغت ذروة (تطورها) في بلوغ مرحلة ظهور (الدولة داخل الدولة ) التي مارسها حزب الله الذي جر لبنان الى حرب مجانية ،معروفة ومحسومة النتائج سلفا ،مع اسرائيل . فهل سيكون مشروع لبننة العراق ،الذي دعمه الكونكرس الامريكي بقرار منه ،يفرض على العراق ومستقبله السياسي ان يكون شكل نظامه السياسي فيدراليا ... وبين هلالين : ان يكون نظام الاقطاع سمة وشكلا وقالبا لنظامه السياسي .في مقال له على صفحات ملحق جريدة النهار الصادر في 27 / 10 / 1968 ،يصف موريس الجميل ازمة نظام الاقطاعيات السياسية والطائفية في لبنان بانها ازمة مصير ،حيث يقول : ( اننا نعاني ازمة مصير .. اننا نتخبط في ازمة نظام تنبع من استمرارنا في انتهاج ليبرالية خيالية ،اجتماعيا واقتصاديا ،هذه الليبرالية التي تحولت الى قرصنة بعض الاغنياء والمتنفذين وضمان لامتيازات مستثمري الوضع الراهن .. واننا بفعل هذه الازمات اصبحنا في وضع ينذر بالانفجار) . ويضيف : (ان البلاد تعيش مركب ازمات ،وان مضامين هذه الازمات تتجلى في ازمة الدولة وازمة النظام وازمة المؤسسات ) .ثم يصف الجميل حقيقة حكم الطوائف والاقطاعيات السياسية على انه : (تاريخ احتيالات سياسية نابعة عن روح عثمانية وبهلوانية تفكيرية على غرار ما ابتليت به الجمهورية الفرنسية الثالثة ) . وبعد مرور عام واحد على نشر هذا المقال ،صرح النائب الكتائبي ،ادمون رزق ،لنفس الجريدة برؤيته للخوج بلبنان من حالة الفوضى واللانظام التي اوجدتها حالة حكم العوائل السياسية الاقطاعية قائلا : (يبدو ان الامل الوحيد الباقي للبنان هو انتفاضة الشعب مباشرة .. ان البلاد في حالة اللاشئ ،والحكم في حالة اللاوجود ،والمسؤولية في حالة اللاتحديد ). أليس هذا هو بالضبط ما سعت الادارة الامريكية الى فرضه وتكريسه على الحياة السياسية العراقية من اول ايام دخول المندوب السامي الامريكي (بول بريمر) ،وهو وصول العراق الى دوامة الاضطراب والفوضى حيث (البلاد في حالة اللاشئ ،والحكم في حالة اللاوجود ،والمسؤولية في حالة اللاتحديد ) ؟ أليست هذه هي اوضح حالات تغييب النظام (المنظمة) او نشر (الفوضى المنظمة) المسيطر على عملية توازناتها من قبل زعماء احزاب العوائل والعشائر والطوائف التي طفت على سطح الخارطة السياسية للعراق المحتل ؟ وأليست هذه نسخة كاربونية لوضع لبنان ونظامه السياسي (ازمة غياب النظام) او غياب سيطرة الدولة ؟ وهذا بالضبط ما يحدث في العراق اليوم ،اقطاعيات للطوائف والاحزاب والميليشيات المسلحة ،وكل منها له استقلاليته ومنطقة نفوذه داخل اطار الدولة ،والذي لا تستطيع الدولة الاقتراب منه . ثم ألم تفرض احزاب الطوائف اجندة التقسيم هذه على شكل الدولة وهيئاتها السياسية وتثبتها في الدستور ،من خلال لعبة توازن مراكز القوى ،تحت يافطة التوافق الوطني ،عن طريق استحداث ما اطلقوا الهيئات الرئاسية الثلاث : مجلس رآسة جيرت رآسته لصالح الحزبان القوميان الكرديان ،مجلس وزراء فرضت احزاب الاسلام السياسي الشيعية ان تكون رآسته من حصتها ،وبصورة دائمية ،بحجة غالبية الشيعة العددية بين سكان العراق ،ومجلس نواب فرضت رآسته على احزاب الاسلام السياسي السنية ،بحجة ان السنة يمثلون اقلية عددية بين نفوس العراق ؟ وهذه هي قاعدة توازن مراكز القوى التي يقوم عليها نظام الاقطاعيات الطائفية في الدولة اللبنانية ،ووفق جدول ومعايير الثقل المادي والسياسي وعدد افراد الطائفة او اقطاعية الزعيم السياسي او الديني .ومثلما غيب المواطن اللبناني ولم يشاور او يستفتى على اختيار هذا الشكل من نظام الحكم الا تحت ضغط وارهاب الازمات التي افتعلتها زعامات الاحزاب والطوائف ،وبتخطيط ودعم اطراف خارجية ،غيب المواطن العراقي واخذ على حين غرة تحت ضغط وترويع ازمات امنية وجرائم ابادة جماعية ووضع سياسي متقلقل ،لتستأثر زعامات الطوائف والاحزاب ،التي صنعتها ادارة الاحتلال وفرضتها عليه ، بالرأي في تحديد مصيره وشكل نظام الحكم الذي يسهل عليها السيطرة عليه من خلاله .
الطائفية السياسية
""""""""""""
تكريسا لهذا الوضع التفتيتي ،وشرعنة له في الحياة العامة العراقية ومستقبلها السياسي ،عملت ادارة الاحتلال الامريكي على استقدام الاحزاب الدينية ،فيما يخص مسلمي العراق من العرب ،والاحزاب القومية ،فيما يخص اكراد العراق ،على ظهر دباباتها لتسلمها مقاليد السلطة في العراق عقب احتلاله . كما انها ،وبموزاة هذا الاجراء ،عملت على تهميش دور الاحزاب والقوى اليسارية والديمقراطية والليبرالية العلمانية (انظر مقالنا الموسوم ،دور بريمر في تهميش القوى الديمقراطية والعلمانية،المنشور على موقعنا الفرعي في الحوار المتمدن ) ،من اجل الامعان في اضعافها واقصاءها عن الحياة السياسية ،لانتهاجها الخط الوطني الرافض للمساومة على وحدة العراق الوطنية ونبذها لفكرة الطائفية التقسيمية ،ولتقديمها مصلحة العراق ووحدته ،ارضا وشعبا ،على المصالح والمكاسب الشخصية والفئوية وعدم انجرارها خلف مغريات المشروع الامريكية الاقطاعية والامتيازية . وعلى هذا الاساس نرى عمل ادارة الاحتلال على اغراء بعض العناصر السنية بالمال والوعود الاقطاعية ،وامدادهم بالوسائل والادوات المادية والاعلامية ،من اجل تأسيس احزاب (اسلام سياسي) في مواجهة الاحزاب الدينية الشيعية ،التي كانت قد استقدمتها معها ،كحزب الدعوة والمجلس الاعلى للثورة الاسلامية . فحقائق الارض والتاريخ تثبت ان العرب السنة في العراق لم يعرفوا شكل التنظيم السياسي الديني (الحزبي المنظم) ،باستثناء تجمع الاخوان المسلمين ،المحدود القاعدة والنشاط والانتشار ،والذي انقطع مجرد ذكره في الشارع السني مع بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي . لذا نرى ادارة الاحتلال تلجأ الى تأسيس الحزب الاسلامي العراقي ومؤتمر اهل العراق ،كأحزاب دينية لتمثيل العرب السنة في لعبة الاقطاعيات الطائفية وحرب النزاع على قسمتها . ومسيرة العملية السياسية تتوفر على عشرات الامثلة في دعم وتسييد الاحزاب الطائفية على حساب الاحزاب الوطنية العلمانية غير الطائفية ،كمجموعة الاحزاب اليسارية وبعض الفصائل العلمانية المنضوية تحت يافطة القائمة العراقية ،اضافة الى مجموعة من الشخصيات السياسية المستقلة التي حوربت من قبل الاحزاب الطائفية واجبرت على مغادرة العراق ،وليس العملية السياسية وحسب ،كوزير الفاع الاسبق ،حازم الشعلان ،الذي دفعت به مؤامرة اقصاءه عن منصبه ـ بسبب تصميمه على محاربة ميليشيات الاحزاب الطائفية والوقوف بوجه التغلغل الايراني في العراق ـ الى كشف بعض خيوط المخطط الامريكي ،عندما اتهم احزاب الاسلام السياسي بالنهج الطائفي التقسيمي ،وحمل الادارة الامريكية مسؤولية تمكينها من جميع مرافق وادوات العملية السياسية وختم اتهامه بعبارة بهذا المعنى : لقد قلت للامريكان لماذا صنعتم لنا احزابا دينية واطلقتم ايديها في شؤون بلدنا ،في حين انكم تحظرون تشكيل مثل هذه الاحزاب في بلادكم . لقد قام المشروع الامريكي في العراق على فكرة الاتحاد الفيدرالي بين ثلاثة دول رئيسية ،(دولة كردية في الشمال ،وسنية في الوسط ، وشيعية في الجنوب) مع تقسيم هذه الدول الى اقطاعيات طائفية ،كحصص بين الاحزاب زالفئات والمجاميع التي بلغ تعدادها ،عشية الانتخابات التي نهاية عام 2005 ،اكثر من ثلاثمئة حزب وتجمع وحركة !وقد هيأت حالة جهل الشارع العراقي باصول اللعبة السياسية عامة ،ونوايا واهداف المخطط الامريكي خاصة ،الارضية والاجواء المناسبة لاحزاب الاسلام السياسي لفرض خيارها على توجهات الناخب غير المتعلم ،خاصة بعد ان دعمتها المراجع الدينية بفتاوى قطعية حرمت انتخاب الاحزاب غير الدينية على اتباع كلا المذهبين ،ومدها الامريكان وبعض الدول والجهات الاقليمية باموال طائلة لتمويل حملاتها الانتخابية ،التي فاقت تكاليفها ميزانية الدولة نفسها !وسرعان ما فرض هذا الوضع الكارثي ،وبفعل ما رافقه من حرب اهلية طائفية ،حرصت قوات الاحتلال وميليشيات الاحزاب الحكومية واطراف خارجية ،اقليمية ودولية ،على استمرار تأجيجها بدفعات منتظمة من افعال الدس والتخريب ،سواء عبر وسائل الاعلام ـ تمتلك جميع الاحزاب الطائفية قنوات فضائية خاصة بها ،الى جانب امتلاكها للصحف والمجلات وقنوات البث الاذاعي ـ او عن طريق ممارسات القتل والتهجير القسري على اسس طائفية او عنصرية او مناطقية ،او عن طريق ـ وهذا كان اخطر الاسلحة وامضاها اثرا في اثارة النعرة الطائفية ـ تفجير المراقد والاضرحة المقدسة لدى الشيعة ،والتي بدأت بتفجير ضريح سامراء في 22 / شباط / 2006 ،والذي صار بمثابة الاعلان الرسمي لانتقال الحرب الطائفية من الطور المتكتم الى الطور العلني ،والذي صار الذريعة (المشرعنة) لحصاد ما يقرب من 350 ألف عراقي ،خلال العام الذي تلا عملية التفجير .. هذا الى جانب ما حققته الاقطاعيات السياسية والاحزاب الطائفية ،عن طريقه ،من مكاسب التكريس لقواعدها ومراكز نفوذها السياسية والجغرافية واستقطاب المزيد من الاتباع ـ تحت دعوى ان كانتونات الاقطاعيات وحدها الكفيلة بحمايتهم من حصاد الموت المجاني الذي يعم الشارع العراقي ـ الذين امعنت اجهزة الدولة الامنية ـ وهي مشكلة على اسس طائفية ومناطقية ـ في خذلانهم ،من خلال ترك الشارع مشاعة لعملية انفلات امني مقصودة ،تنشر فيها الميليشيات المسلحة وعصابات الجريمة المنظمة عمليات القتل المجاني والابادة المنظمة للشعب العراقي ،بمختلف مكوناته ،ليظهر كل مكون بمظهر المعتدي على المكون المقابل له ،وكل وكل مجموعة بثوب العداء الطائفي او العنصري او المناطقي للمجموعة التي تقابلها في الدين او الطائفة او القومية . وقد كان من بين افدح افرازات هذا الوضع المأزوم طغيان النزعة الفردانية عند المواطن وحلولها محل الروح الجماعية (روح الوحدة الاجتماعية) التي كانت تشد اواصر المجتمع ،كوحدة واحدة ،متواشجة ومتآلفة ومتأزرة ،بلا توجسات او فرقة ،وبلا (نعرة الاخر) الاجتماعي او الديني او المذهبي المحسوس او الملح ،رغم اننا لا نستطيع انكار وجود (آخر) بالمعنى السياسي . ولكن ،وقبل ان اختم هذه العجالة ،لابد من ان اشير الى اهم مشكلة سيفرزها هذا الوضع المأزوم ،وان لم يكتب له النجاح على صعيد التطبيق الرسمي ،وهي التركة النفسية ـ الثقافية ـ الاجتماعية التي سيرسبها في النفوس ،لدى المجموع العام غير المحصن ثقافيا ،على وجه الخصوص ،خاصة وان هذه المرحلة قد شهدت دأب ملموس ومفضوح لتعطيل الاحزاب غير الطائفية ،التي كان معولا عليها في تولي عملية (التثقيف المضاد) لثقافة الاقطاع والطائفية الدينية والسياسية وروح الانعزال ،التي اخذت بعض رواسبها تستقر في النفوس تحت ضغط اعمال القتل والتهجير وثقافة الاخر ـ العدو او المعادي . اما الحل الذي نراه للخروج من هذا المأزق ،فهو الحل الذي نهجته اغلب دول العالم المستقرة والمتحضرة ،من خلال اختزال كم فوضى الاحزاب التي يعانيها العراق ،وهي سبب مشكلته الرئيس هذه ،في ثلاثة احزاب : حزب لليسار وحزب للوسط وثالث لليمين ،وعندها لن يعود هناك من مجال او مسوغ امام اصحاب الطموح الفردي لبناء او تكريس فكرة الزعامات الفردية (الزعيم الخالد او القائد المقدس) المرتكز الاساسي لفكرة الاقطاع السياسي والطائفي .. كما انها ـ فكرة الاختزال الحزبي ـ ستحصن الناخب ضد عملية الانسياق خلف ترهلات ووعود الافكار الانعزالية التي ستعريها جدية برامج الاحزاب الثلاث ومدى التزام كل حزب في تنفيذ برنامجه ووعوده الانتخابية ،بعد ان لا يعود امامه مجال للمناورة او النكوص ،في ظل صفاء الساحة السياسية ،من فوضى الكم الحزبي ،وتركيز الناخب في دقة المراقبة على الحزب الذي سيصل الى السلطة وعلى مدى جديته في معالجة مشاكل المجتمع والتفاني في مسيرة انمائه على كافة الصعد .