صديق العصافير
بقلم: سمير الفيل
تلك ضرورة . أن أتجه إلى هناك بأقصى سرعة . فأطوي المسافات ، وأبحث عنه في الثكنات البعيدة التي أخذته ، وطوحته بعيدا عن الدار ، والعصافير ، وأسماك الزينة ، وكلاب السكك المبتردة التي كان يحنو عليها بشكل لم أر أحدا يفعله غيره.
قالت لي أمه : جاءني صوته منكسرا وحزينا .
انتفضت قلقا ، وزاد توجسي كلما أوغل الوقت في ريبته .سمعتها تبكي في حجرتها . رأيت أن أزوره على صعوبة ذلك . لم أفعلها غير مرة واحدة كنت أمر فيها بالقرب من الثكنات ، وانتظرت ساعتين حتى كادت روحي تزهق من الملل . جاءني يومها فرحا وبشوشا ومد يده وتحسس كيس الأطعمة والفواكه . غمز لي بعينيه : أما أنت أحلى أب .
صحت فيه وأنا أتامله مرحا بزيارتي المفاجئة له ، ومعي صديقي الكاتب : سبحان الله . جندي يحمي الوطن صحيح.
ضحك ساخرا: أحمي الوطن بقطعة خشبة لا ذخيرة فيها.
مرت المزحة على خير، وأحضر لنا زجاجتين من المياه الغازية. جلسنا معه يومها لنصف ساعة ثم انصرفنا على الفور في خفاء . المكان بعيد ، وتحوطه الأسوار من كل جانب ، أما المحاذير فأصعب من أن نتخطاها بسهولة.
قطار التاسعة الذي ركبته نغص علي البقية الباقية من صفو ذهني ؛ فزحامه مروع ، والأجساد تتصارع كي تحصل على رقعة للوقوف فما بالك بالجلوس .
قالت لي وهي تصر لي بعض الأطعمة المطهية منذ دقائق في ربطة محكمة : كان صوته مشروخا من النحيب .
ـ هل أخبرك بشيء ؟
ـ لا .
ـ فلماذا أذهب ؟
ـ أنا أدري بابني .
ـ كيف؟
ـ إنه يتكتم كربه في صدره.
هل لي أن أتوجه إلى القائد فأخبره أن لي حقا على " الكاكي "حين خدمت على الجبهة لسنوات ، ودونت كل ذلك في أوراقي .
الطريق ملتو ، وأشجار الكافور مصفوفة في المنحدرات . كان يجب عليّ أن أتخطى مزلقان السكة الحديد. شعرت أن القطار دهمني ، وطسني طسا فتوجعت ، وكان الباب سيارة الميكروباس قد انزلق وسقطت بعد أن خدر الكسل جسدي فرحت أتوجع. السيارة التي ركبتها من محطة القطار حتى الثكنات كانت مفاصلها تطقطق ، وركابها محشورون حشرا كقطعة لحم واحدة . كوب ماء في يد شاب ملتح راح يقرا " يس " ، وبرشامة صداع ، مع بعض الماء المزهرالمرشوش على الوجه.
وصلت بعد أن عدلت من هيئتي . عساكر في نفس السن الغض أشاروا لي أن أبقى قليلا في الظل ريثما يمر الضابط في نوبته الروتينية .
على الحشائش الخضراء جاءت جلستي ، وخط الجير الأبيض يحدد بوضوح المنطقة المحذورة.
وجدته يتلفت ، وبيده قفص صغير من الخيزران ، كان يحركه مسرورا . يميل بجسده الصغير ، وهو يضع الحب في قبضة يده الصغيرة ليطعم عصافيره الملونة : إحذر أن تنقر أصابعك.
ـ لا تخف يا أبت.
ـ هل ميزت الذكر من الأنثى؟
ـ طبعا ، وسأريك.
أدخل يده مترددا فانكمش طائر ،ودخل العش الخشبي في سقف القفص فيما بقى الطائر الآخر يقرب منقاره الصغير المسحوب من اليد في رهبة ينقرها نقرة إثر نقرة ، ويصدر صوتا أقرب للشقشقة الخجولة.
اقتربت من كشك الشرطة وسألت : هل أخبرتموه أني هنا ؟
ـ نعم. سيأتي .
ـ لقد تأخر .
ـ عليك بالصبر قليلا.
ـ أنا صابر.
ـ اختف هناك لو سمحت . وجودك يسبب لنا المشاكل.
في تلك اللحظة وجدته أمامي ، وقد طال شبرين. تراجع عندما رآني ، وتلجلج في الكلام: أنا نجحت.
ـ مبروك . هديتك ستكون أول الشهر.
ـ لا أريد هدية يا أبي.
ـ لكنني وعدتك.
ـ اسمح لي أن أربي الكلب .
ـ ستغضب أمك فهو سينجس لها المطرح.
ـ سأغسله بالماء والصابون كل صباح.
ـ لن ترضى ، ستنقض وضوءها.
ـ لكنني أريد أن يكون معي .
سمح بفسحة صغيرة وسع بها المكان وأراني إياه. كان كلبا بلديا رخيصا لكنه في غاية المرح . يتمسح في بنطلونه ، ويهز ذيله في حبور .
ـ لا داعي للمشاكل .
ـ والله لن أحدث أية مشكلة .
ـ أبعد عن الشر وغني له.
ـ أي شر . الكلاب تجلب الخير.
ـ يمكنك أن تشتري مسدس بطلقات ، وتلعب " عسكر وحرامية" .
ـ لم أعد طفلا.
ـ قلت أن الكلب نجس .
ـ لكنني لست أمرأة لأربي قططا .
ـ لا قطط ولا كلاب.
جاءت أمه في تلك اللحظة ، وحالما وقع نظرها على الكلب صرخت ، وأقسمت ألا يدخل البيت أبدا. هي أو هو . وقد انتصرت على الكلب فقد كانت هي الأهم . رأيته يبكي ويخفي دموعه بظاهر يده قبل أن يعطينا ظهره .
مرت سيارة التعيين فاختفى الصغير وأمه ، ومرّ كلب هرم لا يشبه الكلب الذي كان الولد قد ربطه بحزام جلدي في عنقه مع شريط من الستان الأحمر منذ سنوات . سمعت لغطا وأصوات ترتفع كي يسرع العساكر بحمل "أروانات" التعيين لتدخل المعسكر بسرعة . مرت سحابة داكنة فأظلت المشهد ، وتفصد العرق على جبهتي ، وأنا أحرك مسبحتي الكهرمان في جلستي القرفصاء ، والعشب يتحرك بنسيم الشمال الذي يسري بنظام عجيب .
وضع يديه الصغيرتين على وجهي ، وهمس بصوت خاله غليظا: من أنا ؟
ـ أنت الديك؟
ـ وما لون ريشي ؟
ـ أحمر على أسود.
ـ هل أبيض أم ألد؟
ـ لا هذا ولا ذاك . الدجاجة هي التي تبيض .
ـ وما كلمة السر؟
ـ الديك الفصيح يطلع من البيضة يصيح.
رفع كفيه ، وقال لي في خيبة أمل مصطنعة : عليك واحد . لكنك كشفتني.
وخلفه وجدت صندوق صغير وبداخله مجموعة من البلي الزجاجي الملون . طلب مني أن يلعب معي " في العش وفي الطار " . غلبته مرة ، وغلبني مرتين ، دققت في ملامحح وجهه كانت سمرة خفيفة تميزه ، رأيت أنه قد قصر ثلاثة أشبار ؛ لأنني حينما حملته لأدور به في البلكونة مثلما كنت أفعل كلما عدت من العمل وجدته قد خف ، وخف حتى أنني شعرت أنه صار في خفة الريشة ، وحينما أدوخ وتدور بي الدنيا أجده ينزل بهدوء ، و يضع صدره اللاهث على الكنبة الخضراء بمنمنماتها البنية ، وهو يشهق : أنت سكرت.
سألته وأنا اقرب وجهي من عينيه البنيتين: من أخبرك بمسألة السكر يا ولد؟
ـ أنت.
ـ متى؟
ـ يوم ذهبنا للصيد قلت لي أن اصطياد كل هذا البلطي أسكرك . ورأيتك تتطوح؟
ـ أنا يا ابن الذين...
حملت الصرة من جديد وحاذيت السور ، وذهبت إلى البوابة الخلفية ، فصدمت لأن الجنزير الحديدي كان يغلقها بإحكام شديد . عدت شاعرا بالضياع ، ومالبث أن غمرتني نوبة من الضيق .
قربت وجهي من شبكة الحديد بفتحتها المدورة : أهو بخير؟
ـ نعم.
ـ لماذا تأخر؟
ـ سيأتيك حالا بعد أن نجهز الأمر.
ـ ما الذي تجهزونه ؟
ـ لا شيء .
قبل أن أحتج وأضرب بقبضتي الباب المغلق ، وضعت يدي على شعره الناعم ، ولاحظت انه مبتل . ملابسه كانت هي الأخرى تقطر الماء .
قسوت عليه وأنا أهدده بالكلام : سأضربك لو كذبت علي ّ.
ـ لن أكذب.
ـ هل نزلت النيل؟
ـ نعم.
ـ لماذا عصيت أوامري؟
ـ كنت أريد أن أعرف كيف تسبح الأسماك.
ـ بالزعانف والذيل .
ـ عرفت ذلك لأنني صرت في النهر سمكة !
ـ وماذا لو غرقت ؟
ـ كان معنا طوق مطاط.
ـ إذن هو شيء مدبر.
ـ أبدا.
ـ من كان معك من الأولاد. سأخرب بيوتهم .
ـ لا أعرفهم.
كنت أدرك أنه يتستر عليهم ، ويحميهم بصمته . خلصتنه أمه من ضرباتي الطائشة . فز الولد من مكانه عندما لوّحت له أن يذهب ليغير ملابسه ، وأقسمت برحمة أبي أن أحرمه من المصروف شهرا.
ربما سمعني لأنه ابتعد عني ، واستعصم بالصمت وهو يجذف بيدين قويتين مبتعدا عن الشاطيء ، صحت فيه أن يعود ، لكنه طلب مني أن انتظر لدقائق ، وابتعد حتى لم أعد أرى القارب . بعد أن غفوت من التعب وجدته عائدا ويده تلوح لي والأخرى تحمل جرة من الفخار . كان ريقي جافا فتجرعت الماء السلسبيل . هبط من القارب ، ثم ربطه في حبل قصير مجدول بشجرة سدر ، وهزني : أفق.
أفقت فعلا فإذا السور بنفس امتداده البعيد البعيد ، وصفوف من العساكر تدخل ، ويغلق الباب من جديد. أنّت المفاصل وسمعت من ينادي باسمه . فتح الباب المواجه لجلستي بشكل موارب، وسمحوا لي بالدخول.
ـ ابني .
كان حليق الشعر .
ـ ماذا بك؟
صمته يؤرقني ، وفي عينيه دموع حبستها كرامة لشاب يقترب من حدود الرجولة.
ـ هل آذوك يابني؟
لمحت خيط لا يكاد يرى من الأسى يتسلل إلى الوجنتين.
ـ لماذا جئت ؟
ـ لأراك؟
ـ حضورك أتعسني .
ـ لم أقصد .
ـ تحملت الألم وحدي .
ـ والآن ..
ـ أفسدت كل شيء .
ـ لماذا تعاتبني ؟ ماذا حدث ؟ هل فعلوها معك؟
ـ نعم يا أبي . دخلت السجن .
ـ وضح لي . ماذا فعلت ؟
ـ كنت في الخدمة ، وكاد زميلي يقع من طوله لأنه صائم طول اليوم.
ـ ثم؟
ـ تركت مكاني للحظات كي حضر له زجاجة ماء.
ـ ولماذا لم يذهب هو؟
ـ الواجب كان يقتضي أن أفعل أنا.
ـ لماذا؟
ـ كان يغمغم كالشارد أنه عطشان . وقد ذهبت دون أن أفكر في العواقب .ثم أن الجميع يفعلها .
أكملت : وجاء الضابط ، وأحالك " مكتبا " إلى القائد.
ـ نعم.
ـ والباقي معلوم.
ـ لكنني ورحمة جدي لم أفعل ما يستوجب العار.
ـ أعرف . لكنك أخطات. لا يترك جندي مكان خفرته.
ـ آه . قوانين الضبط والربط.
ـ بدون ذلك لا ينتظم الأمر .
ـ أكنت أتركه يسقط من الإعياء؟
ـ وماذا حدث لك هناك؟
ـ لا شيء .
ـ بل حدث .
ـ قيدوا يديّ ، وصفدوا أقدامي بالأغلال لأسبوع كامل؟!
ـ أسبوع. كان يكفي خدمتتان زيادة .
ـ نعم . لم أذق النوم يا أبي أسبوعا.
تأملت وجهه الهضيم ، والتفت إلى العساكر الذين أخلوا لنا الحجرة الملاصقة للبوابة . كانوا يتحدثون في همهمة غاضبة ، وقلوبهم مع زميلهم . أبني . قال لي واحد من العساكر وهو يعدل الكاب: ابنك جدع .
وجاء صوت لشاب نحيل في نفس سمرته : طيب وخدوم .
أحضر ثالث كرسي وربت على كتفي : نحن نحبه جدا .
تحركت أصابعه على الأورج ، وتصاعدت النغمات فملأت المكان " حمامة بيضا .. ومنين أجيبها " . كنت أشجعه بهزات من رأسي ، وكانت أمي تقف بالصينية على الباب متسمرة ، وهي توّقع دقات متتالية بمشط قدمها الأيسر. غنى بصوت ملائكي " طارت يا نينة . عند صاحبها " . صدمتني النظرات المصوبة نحوي من ثلاثتهم . انصرفوا وتركوني معه ثانية . صرنا بمفردنا .
قلت لأنهي الحديث المليء بالمرارة : هي تجربة.
ـ لم تعد الحياة مقبولة.
ـ كلنا تعرضنا لأكثر من هذا.
ـ أنا لم أتعود.
غمرني السكون ، ورسفت في كثبان رملية هائلة أوشكت أن تبتلعني فصرخت في الصحراء اللانهائية : أريد جرعة ماء .
سألني ، وأنا أمد يدي بالصرة : ماهذا؟
ـ طعام جهزته أمك؟
ـ لا أريده .
ـ لو أرجعته ستقلق.
ـ ضعه هنا.
ـ حاضر.
ـ من فضلك لا تخبرها بما حدث لي.
ـ لا , لن أخبرها.
ـ قل لها أنني بخير.
ـ سأقول .
ـ وقفص العصافير الذي كنت أخبئه فوق السطوح.
ـ أعرفه . ماله ؟
ـ من فضلك تخلص منه.
ـ لكن.
ـ ولي عندك طلب بسيط يا أبي.
ـ تفضل.
ـ فتش لي عن عقد عمل عندما أنهي خدمتي.
ـ لكنني لا أريد لك أن تسافر.
ـ سأبحث أنا.
كانت ضمته حنونة ، وموجعة . في كل مرة كان يغادر البيت كنت أكتفي أن أسلم عليه بحرارة. مع الضمة الرحيمة شعرت بروحه المتعبة تنهنه .تحاشيت أن يقع بصري عليه . تسرسب صوته مختنقا : مع السلامة.
صوبت نظري إلى الرمل الأخرس . تأهبت للإنصراف ، ولم أنظر خلفي ، فيما كان العساكر يفكون الجنازير كي أعود للطريق الذي أتيت منه.
القاهرة 17/7/2007