ضحيّة
كنت على مقربة خمسة أمتار منها، حين رأيتها تنزلق رويدا رويدا فيما كانت متشبثة بالسلك المعدنيّ لهاتف عموميّ.. حين أدركتها، كانت مؤخرتها الإفريقية المحشورة في سروال جينز ضيّق، قد استقرت بالكامل على أرضية شارع" سمو غاتا" على بعد خطوات قليلة من الفرع البنكي "وستارن إينيون".
كانت لا تزال معتمدة بكلتا يديها على السلك المعدني، وهي تنشج نشيجا مرّا، إن جذب انظار المارة، فانه لم يحرّك فيهم ساكنا.. كانت مغمضة العينين، دامعة المقلتين حين انحنيت نحوها ثم سحبتها من ذراعيها.
حالما استوت على قدميها، تطلعت إليّ بوجه مستدير كأنه قطعة ليل.. للحظات وجيزة ظللت أتأمّلها..كانت دون العشرين.. صدمني جمالها.. لم أتخيل قط وجود تقاطيع وجه أنثوي بمثل تلك الوسامة الطاغية في مقدمة رأس سوداء.. لأوّل مرّة وجدت نفسي أوافق المطرب عليّ الرّياحي على إختيار حبيبة زنجية للتغني بها من دون نساء العالمين.
كان صدر الشابة السوداء لا يزال يعلو و ينخفض من فرط التأثّر... تأملتني بدورها.. زادت مني اقترابا.. أمسكت بحجابي.. بيدين مرتعشتين، سحبت إليها طرفا منه.. كنت مندهشة حين رأيتها تدنيه الى شفتيها ثم تطبع عليه قبلة خلّفت آثار أحمر شفاه.. كنت أحاول التخلص منها و قد رابني أمرها، حين فوجئت بها وقد ارتمت على صدري مردّدة بانجليزية سليمة...
ـــ يا الهي.. يا الهي... ساعدني يا الهي!
كنت شديدة الإرتباك حين تخلت عن حضني.. تطلعت اليّ بعينين واسعتين.. أمسكتني من كلتا كتفي بطريقة آلمتني فيما كانت تسألني:
ــ "ماي سيستر" تخيّلي .. قلت لك تخيّلي ..ماذا كان يصنع الحاج إبراهيم عيسى كامارا..إمام مسجد النور في قرية صغيرة بجوار العاصمة لاغوس.
ـــ ...؟!
ـــ.. فقط منذ دقائق قليلة؟.
تطلعت الى الفتاة بحيرة فيما اندفعت تقول:
ـــ ماي ستسر.. صدقيني ..أنا لست بصدد رواية قصّة افريقية مسليّة..لقد حدث هذا فعلا..
وهي تنظر في ساعتها :
ـــ قبل اقل من خمس دقائق .. تصوري ماذا كان يصنع الحاج ابراهيم عيسى كامارا إمام مسجد النور في...
كنت بصدد إجهاد مخيلتي للتخمين فيما عسى الحاج إبراهيم عيسى كامارا كان يصنع.. فقط منذ دقائق قليلة.. حين فتحت مخاطبتي حقيبة يدوية أخرجت منها علبة "برنس" استلّت منها سيجارة أشعلتها بيدين مرتعشتين.. سحبت نفسا عميقا أعقبه زفير حادّ.
كنت استرق النظر الى بوابة السوبر ماركت "ريما 1000" حين بلغني صوت الفتاة الإفريقية وهي تسألني بإلحاح شديد:
ـــ تصوري ماذا كان يفعل؟
لم تدع لي الفتاة أي مجال لفتح فمي، حين شرعت تخبط على فخذيها مرسلة ضحكة مدوية ضاعفت إحراجي حين جذبت إليها أنظار المارّة..
كانت ريبتي قد تضاعفت في كون فتاتي مخدّرة أو مخبولة، حين وجدتها ترجّني بيدين قويّتين مؤكدة لي بلهجة حادّة :
ـــ ما حدث لا يمكن تصديقه . ..و لكنه قد حدث بالفعل.
ـــ..؟!!
أضافت الفتاة و قد انتبهت من استيائي لمعاملتها الفظة:
ـــ حسنا سأخبرك بما حدث.
سوّت شعرها الذي انبعثت منه رائحة صبغة حادّة ثم أعقبت:
ـــ ما حدث بالضبط .. أن الحاج إبراهيم عيسى كامارا.. أبي و إمام مسجد النور في قرية مجاورة للعاصمة لاغوس، قد اخبرني منذ دقائق قليلة بأنه كان يدعو الله لي بعد كل فريضة.. و بكل صدق و حرارة .
كنت انتظر بكثير من الوجل انتهاء الفتاة من إخباري بما أخبرها والدها الحاج إبراهيم عيسى كامارا إمام مسجد النور في قرية مجاورة للعاصمة لا غوس، حين قطعت حديثها بقهقهة أشدّ من الأولى..
كنت أغادر محدثتي الغريبة، خصوصا وقد أزعجني كثيرا رائحة دخان سيجارتها، حين ثبتتني في مكاني صارخة فيّ بلهجة مؤنّبة:
ـــ قفي مكانك.. فأنا لم أفرغ بعد!
ـــ ...!!
ــ عليك أن تسمعي ما اقول..
سحبت آسرتي نفسا عميقا من سيجارتها النرويجية ثم استمرت بصوت زاعق:
ـــ فأنا مسلمة
ـــ ...؟!
ــــ قبل سنتين فحسب كنت مححبة.
ـــ ..!!.
ثم وهي تجذب خماري بقوّة.
ـــ أي مثلك تماما..
كنت اراقبها بذهول حين ارتمت من جديد على صدري... احتضنتني بقوة.. همست بلهجة ودودة أحزنني كثيرا وقعها:
ــ ثم لمن أشكو آلامي إذا؟
رددت عليها و أنا أزيحها برفق، دون أن اغفل عن مراقبة مدخل " ريما 1000" :
ــ أعذريني يا أختاه، فعندي حساسيّة ضدّ الدّخان.
أضفت بعد تردّد لم يطل:
ـــ ثم انك بصراحة.. لست طبيعيّة تماما.
أضفت و أنا أضع يدي على كتفها:
ـــ و رغم كل ذلك ها أنذا أنصت إليك جيّدا..
ألقت الفتاة بسيجارة البرنس، سألتني و هي تسحقها بكعب حذاء سيئ التلميع :
ـــ اللعنة .. ماذا كنت بصدد إخبارك به منذ قليل؟
ـــ لقد كنت تسألينني عما كان يفعله الحاج إبراهيم موسى كامارا منذ ..
أسكتتني باشارة فظة أعادت اليّ خوفا غادرني منذ لحظات:
ـــ حسنا حسنا..
ـــ ...!!؟
ـــ لقد كان المغفل ابراهيم كامارا يدعو لي بكل حرارة و إخلاص ان يهبني الله القوّة الكافية لمواصلة تحمّل أعباء مهّمتي الإنسانية النبيلة التي اقوم بها..
ـــ ...؟!!!
ــــ كما حثني على إتقان عملي كما أوصى بذلك النبي الخاتم.
أرسلت محدثتي ضحكة مدوية، طوّحت برأسها ذات اليمن و ذات الشمال، أمسكت بكلتا يدي، أضافت وقد حطت على وجهها سحابة حزن:
ــــ تصورّي ... ماي سيستر.. ما زال الأبله المعاق...
سكتت قليلا ثم همست لي بلجهة ودودة:
ـــ عفوا.. نسيت أن أخبرك بأنّ والدي ضرير بالولادة.
ــــ ...
ــــ قلت لك ما زال والدي المعاق يعتقد الى حدّ الساعة، بأنني أقوم بخدمة عجائز نرويجيات من ذوات الإحتياجات الخاصّة..
ــــ ....؟!
كما زال يعتقد ان في إمكاني زيارته وقتما أشاء .
ـــ ...!
ـــ يا للأبله المسكين !
ـــ ...؟!
توقفت الفتاة قليلا ريثما فتحت حقيبتها اليدوية، اخرجت سيجارة "برينس" سرعان ما أعادتها الى موضعها، حين ذكرتها بحساسيتي ضد الدخان.. كنت أتطلع الى مدخل "ريما 1000" حين سمعتها تهمس لي:
ـــ المضحك في القضية انه ما زال يعتقد بأنني ازددت التزاما بخماري منذ حلولي ببلاد الفيكينج بحثا عن عمل يضمن سدّ رمق أسرتي الكبيرة.
كانت المسكينة تضحك بمرارة حين لمحت زوجي يغادر ريما 1000
لم أملك بدوري سوى مغادرة الفتاة التي أجبرتني على انتشال يدّي من قبضتها المرتعشة، خصوصا وقد أرعبتني ملامح زوجي المكفهرة فيما كان يتجاوزني مسرعا... ما ان لحقت به حتى بادرته معاتبة:
ـــ لقد أبطات كثيرا حتى..
استدار نحوي ثم قاطعني مزمجرا:
ـــ لعلك تعرفين تلك الفتاة النيجيرية البائسة؟
ــ أبدا..
حين تأكد أنني لم أر الفتاة قبل الساعة، وبعد ان مكنني من فرصة سرد مأساتها، بدا على محيا زوجي بعض الرضا.. أشعل بدوره سيجارة "برنس " لم أملك الشجاعة لإرجاعها الى علبتها.. نفث دخانا أزعجني، ثم طفق يخبرني بلهجة محايدة، ان الفتاة النيجيرية ــ وغيرها كثيرات في أروبا ــ قد وقعت لسوء حظها ضحية عصابة دولية منظمة مردت منذ عقود كثيرة على إغراء مثيلاتها براتب شهري يتقاضينه لقاء العمل في منازل عائلات نرويجية محترمة أو في دور عجز، كلّ ذلك بعد إمضائهن على شيكات بتكاليف سفرهن مع إضافة أجر الشركة التي تنسق بينهن و بين مستخدميهن الأجانب، وما ان تحلّ الواحدة منهن في أروبا، حتى تجبر على تعاطي المخدّرات، ثم على التوقيع على شيكات بمبالغ خيّالية لتكون طوع إرادة أفراد تلك العصابة.. فيقع استغلال الضحيّة التي لن تتقاضي من أجر عملها ألا نسبة ضئيلة جدّا تنفق نصفها على حقنتها اليوميّة، و نصفها الآخر على أمثال المغفلّ الحاج إبراهيم عيسي كامارا، إمام مسجد النور بقرية صغيرة بجوار العاصمة لاغوس.
حتى أتم زوجي كلامه، سألته نصف باكية:
ــ اليس في إمكانها الهرب؟
ــ لن تفعل ذلك، لأنها تدرك جيدا أن الموت المحقق سيكون مصيرها اذا رفضت الإستمرار في ممارسة أقدم مهنة عرفها التاريخ.
لم أعلم صباح ذلك اليوم النرويجي المكفهرّ، أن البغاء هو أقدم مهنة عرفها التاريخ، الا بعد أن دفعت ثمن تلك المعرفة تعييرا نابيا بجهلي من قبل زوجي الفظّ الذي لم أملك الجرأة لسؤاله عن ظروف معرفته بتلك
الضحيّة النيجيرية الفاتنة.
أوسلو 9 نوفمبر 2010