مدارات
مدارات
مدارات
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مدارات


 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 التكوين

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
محمد داني
مشرف



عدد المساهمات : 56
تاريخ التسجيل : 20/11/2009
الموقع : daniibdae.blogspot.com

التكوين Empty
مُساهمةموضوع: التكوين   التكوين Empty25/1/2010, 20:13


التكوين



كانت كلمات أحمد شوقي تطن في رأسه، وتفعل فعل الأسبرين..أخذت الصور تمر من أمامه..سيكون رسول أمة.. أمة من الأطفال..أمة من الصبايا..سيبلغهم رسالة أخطر ما فيها أنها تنقلهم من صفة البهيمة إلى صفة الإنسان.

أخذ قراره في أن يكون معلما. فالمعلم في هذا الزمان سيد القوم، وفي المجتمعات الغربية أبو المعرفة، وأداة التقدم والتغيير.

كان الدافع الأكبر لأخذ قراره هذا، والسير فيه إلى آخر حد.. كلمات شوقي تغريه، وما زالت تطن في أذنيه:<< كاد المعلم أن يكون رسولا>>. تقدم إلى مباراة ولوج المعلمين . وكان من الناجحين، ولم يشعر إلا وهو في داخلية مدرسة المعلمين بفاس، بين أقران كل واحد قذفت به دنياه إلى هذه البناية العتيقة. كل واحد منا كانت تظهر على ملامحه آيات الفقر، والطحن واليأس. عيون ذابلة..غائرة..ورؤوس شعثاء..وأجساد ضامرة.

لم يكن يعرف أن العيش في الأشهر الأولى بين جدران هذه البناية، وداخليتها سيكون صعبا. اشتاق لأمه وأبيه، وإخوته، وأولاد حارته.. وفي شوقه هذا كان يستسلم لوحدته ويغرق في غربته..

كان الاندماج في هذه المجموعة المتجانسة اجتماعيا، والمختلفة طباعا وثقافة، وأخلاقا، ونفسا صعبا، جعله يميل إلى عزلة تامة خرج منها بعد أشهر شيئا فشيئا..
كانت الداخلية سجنا قذف إليه. كل شيء فيها يسير حسب نظام معين. وكل شيء بالساعة والدقيقة. وهنا تذكر كلمات بيير بورديو بأن الداخلية حقا لا تختلف كثيرا عن بعض المؤسسات الأخرى مثل السجون ، ومستشفيات الأمراض النفسية، حيث أن الفوارق توجد في الدرجات فقط.

كان يكره الاستيقاظ في الصباح الباكر، إذ كان يمر بعض طلبة السنة الثانية المكلفين بالحراسة في الداخلية عبر الممر، ويقرع بمفتاحه الضخم قضبان الأسرة الحديدية فيحس كأنهم يطرقون المسامير في رأسه. فيهب من نموه مفزوعا. ويتجه إلى المغاسل مثقل العينين ليستعد ليوم جديد..وكلما عاد إلى الوراء تيقن أن كل مواقفه التي يراها فيه الآن، لعبت الداخلية في تكوينها.

كم كانت أيام الشتاء قاسية في فاس. فكم آلمته أسنانه جراء برودة الماء الشديدة، ولم يكن يعرف الماء الساخن إلا يوم الخميس مساء من الثامنة إلى التاسعة ليلا كل أسبوع. لأنها حصة الاستحمام الأسبوعية. وكان يمتنع عن ذلك لأن نافذة قاعة الدوشات مكسورة ولا باب لها. وفي أيام الشتاء كم كانت الإصابة بنزلة البرد شديدة.

كان المطعم عبارة عن قاعة كبيرة بها 25 مائدة، يجلس إليها ثمانية أشخاص ، كل صباح يملأ وزملاءه بطونهم بخبز من نوع" الفينواز". نصف لكل واحد، وقهوة بالحليب لونها كالباذنجان. لا طعم ولا رائحة لها. وزبدة لم يكن أحد يدري أهي زبدة أم نوع من الخليع.

هذا المقصف له حكايات وحكايات معه. أولها انه بدأ يأكل وعلى مضض بعض الخضراوات التي لم يكن يحبها. وقد كان حظه مع السفرجل الذي أرغم على أكله لمدة شهر متتابع، حتى أصبح يكره السفرجل وعائلة السفرجل. كما أنه يكتفي أحيانا بالخبز وسلاطة الطماطم، عندما تكون الوجبات عبارة عن قرنبيط ومرق تنبعث منه رائحة كريهة، وتطفو فوق مرقه عناكب صغيرة جدا. هذا ما دفع طلاب المؤسسة إلى شن إضراب لمدة ثلاثة أيام امتنع الطلبة فيها عن الدراسة ودخول المطعم. ولم يتوقف إضرابهم إلا بتدخل السيد نائب وزارة التربية بفاس.

كلما تذكر كلمات المدير، وهو يحاول أن يثنيهم عن وقفتهم التي كان فيها احتجاجهم شديدا إلا وانتابته ضحكات عالية. كان رد المدير على مداومة طبخ السفرجل هو: بما أنهم بدو،دخلاء على فاس، لا يعرفون قيمة السفرجل. وأن اسمه ليس(سفرجل)، وإنما (شفا رجل)، وأن قيمته الغذائية كبيرة لأنه يساعد على التحصيل وفهم المواد الدراسية.

أما عن اللحم والذي كان الطلبة أحيانا يتقززون من رؤيته، ومن رائحته. فقد أكد بأن هذا الادعاء باطل ، وأنه نوع من البهتان ، بما أنه يقف بنفسه على جودة اللحم وليس المقتصد.
أما النائب فقبل أن يلتزم بشروطهم، ويعدهم بالسهر على تحقيقها، كانت له جولات مع الطلبة في التربية، والأخلاق والضمير المهني. ولامهم على إضرابهم هذا، وتعجب كيف يمكن لأنبياء ورسل هذه الأمة أن يضربوا عن الدراسة، وطعام الداخلية..وخاطبهم قائلا:<< الرسول يا بهائم زاهد عن الدنيا. حياته تقشف. معرض عن المتع والملذات. لا يضرب أبدا، وليست له مواقف عدوانية. ماذا سنقول لتلامذتنا غدا..؟.هل سنحرضهم على الإضراب، ونعلمهم أساليب الاحتجاج، وندربهم على الاعتصامات والإضراب عن الطعام.

كانوا يسمعون كلامه ويتضاحكون. وفي قرارة نفسهم يشتمون ويبصقون..وقد استطاع هذا النائب بخبرته وتجربته الطويلة أن يوقف إضرابهم الذي استغرق ثلاثة أيام،عندما لوى يدهم، ووضع أصبعه على الجرح. فما إن نطق كلماته والتي كان لها وقع السحر، حتى انقسم المضربون أحلافا وجماعات. وبدأت كل جماعة تتسلل إلى أقسامها . وقد ركزت كلمات النائب على التخرج، والمنحة، والطرد...وكانت جملته الشهيرة التي مازالت لحد الآن يقولها على سبيل المزاح:<< إنكم مازلتم مكتوبين بقلم الرصاص، ومسحكم سهل>>. كانت الوجبات بعد هذا الإضراب دسمة جدا، ومتنوعة. ولم تستمر إلا أياما حتى عادت حليمة إلى عادتها القديمة. تبعتها إجراءات انتقامية اتخذتها الإدارة في حق الطلبة عقابا لهم على إضرابهم السابق، ومنها فرض الساعات الإجبارية كل مساء للدراسة، والمراجعة بعد العشاء من السابعة إلى الثامنة ليلا. وفي الواقع كانت لحظة نكتة وضحك، وقراءة للجرائد، وتحرير للرسائل إلى الأهل والأحباب. وقد استغل الكثير من الطلبة هذه الساعات للإعداد لامتحان الباكالوريا. كذلك أغلقت الدوشات بدعوى: السخان معطل. كما أن أبواب الداخلية أصبحت تغلق بالمزلاج والأقفال ابتداء من الثامنة والنصف. وأحس كأنه في سجن. كل شيء بتوقيت معين. وانه يروض على هذا البرنامج ترويضا. ولم تتوقف هذه الإجراءات إلا بتدخل أساتذة المركز، بعدما بلغهم الطلبة معاناتهم.

كان النوم في أشهره الأولى بهذه الداخلية يجافيه، كان يحن إلى والديه وأصدقائه. كانوا في المرقد/ الزنزانة ستة طلبة معلمين. كلهم من مدينة الدارالبيضاء. متنت الغربة بينهم، وأصبحت صداقتهم لا تنفصم إلى اليوم. كان سعيد أيسرهم حالا، وأكثرهم أناقة. فقد كانت ترسل إليه أسرته الحوالات البريدية التي ينالنا منها – عندما يصرفها- الكثير..: ..قهوة ، أو شاي بساحة فلورانسا، وولوج سينما أمبير، أو أسطور، أو أكلات ببعض المطاعم الشعبية، وسجائر شقراء للمدخنين.

كان معهم عبد المجيد الذي يوافق صاحبنا كثيرا في أفكاره وآرائه. وبعد عشائهم- ذات مرة- وكان الجو باردا من أيام دجنبر، قرروا أن يسافروا ليلا عبر القطار إلى الدارالبيضاء خاصة وانه لا تبعدهم عن عطلة نهاية الطور الأول إلا أيام ثلاثة أو أربعة.

صعدوا إلى غرفة نومهم. أخذوا يجمعون حقائبهم، وقد قذفوا بها فوق المراحيض. ركام من الحقائب، والقفاف. ثم خرجوا من المراقد واحدا ، واحدا بحجة قضاء بعض الأغراض. اتجهوا صوب المراحيض، صعد أخفهم وزنا، وأسرعهم حركة إلى سقفها، وبدأ يمدهم بأمتعتهم، تسترهم ظلمة الليل الكثيفة والتي كانوا بين الحين والآخر يبددونها بالوقيد، والولاعات. ثم اتجهوا خارج المؤسسة.

ما كادوا يعرجون يمين سور المؤسسة حتى صاح في وجههم حارس المركز، هراوته في يمناه ومصباحه الكهربائي في يسراه، آمرا إياهم بالوقوف، وشفتاه تقطران شهدا من السباب، والكلام البذيء، المخجل.

اقتادهم بستتهم كما يقود الراعي أبقاره، إلى غاية الإدارة. أدخلهم حجرة من حجراتها، وأغلق عليهم بابها بالمفتاح. وما هي إلا دقائق حتى امتلأت القاعة ، وكثر الهرج فيها.. ووجدوا نفسهم وجها لوجه أمام المدير والحارس العام للداخلية، والمقتصد...كل واحد مغلف في منامته، وطاقيته الصوفية.

- هؤلاء لصوص- سيدي المدير- وجدتهم متسللين من الداخلية إلى خارج المؤسسة، يحملون معهم هذه الحقائب التي سرقوها من الطلبة الداخليين( يقول الحارس)

- هذا كذب وبهتان حضرة المدير. نحن طلبة السنة الأولى(يرد واحد منهم).

وما إن سمع المدير هذا الكلام حتى هاج وماج وصاح فيهم بكل صوته:
- ماذا؟..طلبة السنة الأولى؟..أنتم لصوص..حاشا لله أن تكونوا طلبة..انتم أبناء الليل، انتم أبناء الشوارع..ارتاحت منكم مدنكم وعلقتم بي لتمرضوا أعصابي..الخطأ خطأي، أنا الذي قبلتكم بمؤسستي. كان علي ألا أقبل لصوص الدارالبيضاء، ومنحرفي الدار البيضاء.

- لسنا لصوصا سيدي المدير( يقول صاحبنا).

- اخرس..ثكلتك أمك(يرد المدير)..اخرس يا ابن العاهرة. لو كنت ابن أسرة حقيقة لما سرقت أمتعة الطلبة، وتسللت ليلا لتذهب بها إلى ساحة أبي الجنود لبيعها.

- هذه حقائبنا..

- حقائبكم؟..وماذا كنتم تفعلون بها يا محترم في هذا الليل البهيم؟..

- كنا نريد أن نذهب إلى الساتيام أو محطة القطار.

- ولماذا؟..

- كنا نريد السفر إلى الدارالبيضاء لزيارة أهلنا مادامت العطلة قريبة.

- والدراسة؟.

ولم يجد صاحبنا كلمة يقولها، بل ما شعر إلا وصفعة تنهال على قفاه، وأخرى على رأسه..لقد

كانت يد الحارس العام للداخلية ثقيلة، وشديدة، جعلت صاحبنا يصيح من الألم.

- ما زلت تتكلم يا ابن الفاجرة. وتخرج عينيك مثل الذئب..

ثم جره من أطواقه آمرا إياه بفتح حقائبه.

- افتح حقيبتك، والله إن وجدت شيئا في ملكية الداخلية، إزارا أو سكينا، أو ملعقة، يكون مصيرك الطرد النهائي من الدراسة

تربع المدير على كرسيه الجلدي، وبدأ الحارس يفتح الحقائب الواحدة تلو الأخرى، فلم يجد بها شيئا غير ثيابهم المتسخة. ساعتها أمر المدير بوضع الحقائب في مكتب مجاور إلى أن ينظر في أمرهم صباحا. ومر الصباح بسلام، ولم يرد الحقائب لهم إلا في آخر يوم قبل العطلة.. // ..



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عزالدين الماعزي
مشرف
عزالدين الماعزي


عدد المساهمات : 49
تاريخ التسجيل : 16/03/2009

التكوين Empty
مُساهمةموضوع: رد: التكوين   التكوين Empty6/2/2010, 21:50

اخي محمد
هي مدرسة للتكوين فعلا
سرد ممتع لغة وجمالا شكرا للذاكرة الخصبة
تقديري
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد داني
مشرف



عدد المساهمات : 56
تاريخ التسجيل : 20/11/2009
الموقع : daniibdae.blogspot.com

التكوين Empty
مُساهمةموضوع: رد: التكوين   التكوين Empty7/2/2010, 21:25

سعدت بطلتك أستاذيواخي الاديب سي الماعزي
لفد شرفتني بطلتك هاته وبتعليقك الجميل
لك كل الحب سيالماعزي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
التكوين
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مدارات :: مدارات سردية :: مدار القصة-
انتقل الى: